المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( الإمام الحسن البصري )



samomran
02-15-2009, 04:40 PM
الإمام الحسن البصري:

دعا له عمر، ورضع من ثدي منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلت به الحكمة والعلوم، حسن الخلقة والخلق، قوي الجسد، فصيح بليغ، صادع بالحق.. آمر بالمعروف ناه عن المنكر، واعظ مؤثر وعالم متبحر، شجاع مقدام، حسن الثياب والزينة، جيد الطعام واللباس، زاهد عابد، خائف متقشف، أثنى عليه العلماء بالغ الثناء. مرب حكيم، صاحب أخبار ومناقشات، مهتم بالعربية، حاكٍ لأشياء من التاريخ.. قاوم الشرك بأنواعه، توفي سنة (110) للهجرة، هذه العناوين وفي المادة التفصيل.



الحسن البصري.. اسمه وكنيته ونشأته:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...

وبعد:

فالحمد لله الذي قيض لهذه الأمة رجالاً ينيرون لها الطريق، ويحيون السنة، ويميتون البدعة، ويجددون الدين، ويتخلقون بأخلاق الأنبياء، فيكونون قدوة للناس، ومصلحين لأحوالهم، ومعلمين لهم، ومذكرين لهم بربهم. ولا شك أن التعرف على سير هؤلاء العلماء الأجلاء من الأمور المطلوبة للإنسان المسلم ليقتدي، وتنوُّع القدوات مهمٌّ؛ لأن كل قدوة قد يكون له جانب من التفوق ليس عند الآخر، فإذا حرص الإنسان على تتبع أحوالهم، اجتمع فيه الخير. وحديثنا في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن الإمام العلم الحسن البصري رحمه الله تعالى. واسمه: الحسن بن يسار، يلقب بـالبصري، ويُدعى تارة: بـابن أبي الحسن. وكنيته رحمه الله: أبو سعيد. وأبوه اسمه: يسار، كان مولىً لـزيد بن ثابت في أحد الأقوال. وأمه: خَيْرَة، كانت مولاة لـأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. يسار تزوج بـخَيْرَة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فولدت له الحسن لسنتين بقِيَتا من خلافة عمر رحمه الله. وقال يونس عن الحسن: [قال لي الحجاج: ما أمدك يا حسن ؟ قلت: سنتان من خلافة عمر]. وكانت أم سلمة تبعث أم الحسن في الحاجة، فعندما تحتاج أم سلمة إلى شيء تبعث إليه أم الحسن، ويبقى الولد عند أم سلمة رضي الله عنها، فيبكي وهو طفل، فتسكته أم سلمة بثدييها، وتخرجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وكانت أمه منقطعة لخدمة أم سلمة، فكان الصحابة إذا أُخرج إليهم الحسن رضي الله عنهم يدعون له، فقيل: إنه أُخرج لـعمر رضي الله عنه، فدعا له، وقال: [اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس]. قال ابن كثير رحمه الله: وأمُّه خَيْرَة مولاة لـأم سلمة، كانت تخدمها، وربما أرسلتها في حاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها، فيدران عليه. وهذه مسألة تحصل في الواقع، من أن المرأة الكبيرة حتى لو انقطعت عن الزوج وعن الولادة بسبب الحنان قد يدر لبنها، ولذلك تكلم العلماء في حكم هذا اللبن، واختلفوا هل له حكم أم لا؟ وهل تكون أماً له من الرضاع؟ وهل تثبت به المحرمية؟ وكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة رضاعته من أم سلمة رضي الله عنها، من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونلاحظ كذلك أثر بركة دعاء الصحابة رضي الله عنهم لهذا المولود، وكيف نشأ وصار بعد ذلك. ولذلك يجب أن يكثر الإنسان من الدعاء لذريته، فقد يكون صلاحهم بدعائه، ودعوة منه قد تكون سبباً لصلاح الولد، ولذلك ندعو لهم ولا ندعو عليهم. وفي كلام كثير من الصالحين دعاء للذرية: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].



وصف خلقة الحسن البصري:

كان الحسن رحمه الله في خلقته رجلاً جميلاً وسيماً، قال محمد بن سعد يصفه: كان الحسن رحمه الله جامعاً، عالماً، رفيعاً، فقيهاً، ثقةً، حجةً، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثيرَ العلم، فصيحاً، جميلاً، وسيماً. وقال الذهبي: قلت: كان رجلاً تامَّ الشكل، مليحَ الصورة، بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين. وقال أبو عمرو بن العلاء: نشأ الحسن بـوادي القرى، وكان من أجمل أهل البصرة، حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما حدث. وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة: إذا نظرت إلى رجل أجـمل أهل البصرة، وأهيبهم، فهو الحسن، فأقرئه مني السلام. وقال الأصمعي عن أبيه: "ما رأيت زنداً أعرض من زند الحسن البصري، كان عرضه شبراً" وهذا يدل على اكتمال خلقته وقوته وجسمه رضي الله عنه ورحمه.



شجاعة الحسن البصري وجهاده:

كان يرافق بعض المشهورين بالشجاعة، كـقَطَرِي بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صُفْرة؛ ولذلك تعلم الشجاعة وتربى عليها. قال هشام بن حسان: كان الحسن أشجع أهل زمانه. وقال جعفر بن سليمان: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقَدِّمُه. فهذه ميزة في الحسن رحمه الله، وهو معروف برقة القلب وبالوعظ، ولو سألت إنساناً وقلت له: ما هو انطباعك عن الحسن ؟ فسيقول لك: هو زاهد وواعظ. وهذا صحيح؛ لكنه قلَّما يُعرف بأن الحسن كان رجلاً شجاعاً مقداماً مقاتلاً، وكان يُقَدَّم في القتال، كان قوي البنية، شديد البأس، وهذا يدل على أن الإنسان الزاهد الواعظ ليس من طبعه الضعف، ولا تلازم بين ضعف البدن والزهد وأن يكون واعظاً، فقد يكون الإنسان واعظاً رقيق القلب، وهو من أشجع الشجعان، ولا تعني الشجاعة وقوة الجسد غلظة القلب بالضرورة أبداً. كما أن رقة القلب وكثرة البكاء من خشية الله تعالى والوعظ لا تعني أن الواعظ يجب أن يكون ضعيف البدن، لا.

فهذا الحسن رحمه الله قوي البنية، ومع ذلك فهو رقيق القلب للغاية. وأما من جهة الجهاد، فإنه رحمه الله كان كثير الجهاد ويخرج للقتال، ولذلك لا انفصام بين العالم والمجاهد، لا انفصام بين الوعظ والجهاد، كلها أمور تجتمع في شخصيات السلف رحمهم الله.



فصاحة الحسن البصري:

أما فصاحته وبلاغته، فإنه رحمه الله تعالى كان فصيحاً بليغاً. قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قوم من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء. وهذا الفرق بين من يخرج كلامه من القلب بنور الكتاب والسنة، وبين من يخرجه بتكلف كأنه يقيء قيئاً. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج بن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن. وقال له رجل: أنا أزهد منك وأفصح، قال: أما أفصح فلا -الزهد لا أزكي نفسي به؛ أما الفصاحة فنعم- قال: فخذ عليَّ كلمة واحدة، قال: هذه. أي: التي أنت قلتها الآن. وقيل للحجاج: من أخطب الناس؟ قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة. يعني: الحسن رحمه الله تعـالى.



لباس الحسن البصري وزينته وطعامه:

ومن جهة لباسه وزينته وطعامه ربما يظن بعض الناس أن الحسن عندما كان واعظاً، أنه يلبس أسمالاً بالية وثياباً مرقعة؛ ولكن الرجل كان جيد اللباس، ليس عنده تعارض بين الزهد وبين جودة اللباس وجماله، فقال ابن عُلَي عن يونس: كان الحسن يلبس في الشتاء قباءً حِبَرَة، وطيلساناً كردياً، وعمامة سوداء، وفي الصيف إزارَ كتَّانٍ، وقميصاً، وبرداً حِبَرَة. وقال أيوب: ما وجدتُ ريح مرقة طُبِخَت أطيب مِن ريح قِدر الحسن. وقال أبو هلال: قلَّما دخلنا على الحسن، إلا وقد رأينا قِدراً يفوح منه ريح طيبة. وكان يأكل الفاكهة، فلم يكن الحسن صوفياً مثل هؤلاء الصوفية الذين يتعمدون أن يُرى عليهم اللباس البالي والمرقع، ولا يأكلون اللحم ولا الفاكهة، بل كان يعتني بأمر حاله، ويتجمل لإخوانه، كيف وهو يُغْشَى؟! فالواحد إذا كان لوحده ربما يلبس ما شاء، لكن إذا كان يتصدى للناس، ويأتونه ويسألونه، ويقتربون منه، ويجلسون حوله، فلا بد أن يكون طيب الرائحة، حسن الثياب، يتجمل للناس، حتى يحبوه. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد والجُمع يتزين. أرْسِلَت إليه جُبَّة، فعرض عليه عمر رضي الله عنه أن يلبسها ويتزين بها للوفود؛ لأن الناس يهتمون بالمظاهر، ولا يناسب أن يكون العالم مظهره رث، وهيئته بالية، ورائحته غير طيبة، وثيابه غير نظيفة، بل إنه يكون نظيف الثياب، طيب الرائحة؛ لأنه يُغْشَى ويُخْتَلَط به، وهكذا يجب أن يكون الدعاة إلى الله الذين يأتون إلى الناس ويخالطونهم، فيجب أن يكون أحدهم كالشامة بين الناس، لا بأس أن يكون ثوب أحدهم حسناً، ونعله حسنة، ورائحته طيبة، وثيابه مرتبة، لكن الإنكار على مَن أسرف، (كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ، ومخيلة) المشكلة في السَّرَف والخُيَلاء، وإضاعة الأموال في التوافه، ووضع المال في شيء لا يستحق؛ كالمبالغة في الزينة، والزخرفة. قال قتادة: دخلنا على الحسن وهو نائم، وعند رأسه سَلَّة، فجذبناها؛ فإذا فيها خبز وفاكهة، فجعلنا نأكل، فانتبه -أي: من النوم- فرآنا، فتبسم- ارتاح جداً أن يرى إخوانه يأكلون من طعامه؛ لأنه يؤجر- وهو يقرأ: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] إشارة إلى الآية التي فيها: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ... [النور:61] إلى أن قال: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] فإذا علمت أن صديقك يرضى إذا أكلتَ من بيته، ولو كان غير موجود، أو بدون إذن، فلا يحتاج الأمر إلى إذن، لا يشترط إذن الصديق إذا أذن لك في بيته أن تأكل منه، فلو أعطاك مفتاح البيت وأذن لك بدخوله، وأنت تعلم أنه يرضى أن تأكل من طعامه، فلا حرج عليك أن تفتح الثلاجة وتأكل من طعامه مما هو موجود في البيت دون إفساد، وهذا الحسن رحمه الله لما رأى إخوانه يأكلون من فاكهته وهو نائم سره ذلك، وقرأ الآية: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61]. وعن جرثومة قال: رأيت الحسن يُصفِّر لحيته في كل جمعة. وقال أبو هلال رأيت الحسن يغير بالصفرة. فمن السنة تغيير الشيب بالحناء.. بالكتم، والصفرة شيء إلى الحمرة، أو اللون البني لا بأس بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيِّر الشيب وجنبوه السواد) و(نهى عن الخضاب بالسواد) و(ليأتين أقوام في آخر الزمان يخضبون بالسواد لهم حواصل كحواصل الحمام لا يدخلون الجنة ولا يريحون ريحها) وحوصلة الحمامة: مثلما يكون من هذا الشكل الهلالي، الذي يجعلونه في اللحى من العبث بها، بحيث يكون هيئتها كحوصلة الحمامة، ويصبغونها بالسواد، فيكون سوءاً على سوء. فهذا الحسن رحمه الله كان يغير الشيب، ونحن نُهينا عن نتف الشيب؛ لأن كل شعرة بيضاء تكون لصاحبها نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، فإذا ظهر له الشيب فإنه يفرح؛ لأنه يكون له نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، وهذا من مراعاة النفس؛ لأن النفس تكره الشيب، فلما نهينا عن نتفه رُخِّص لنا بصبغه وتغييره بغير الأسود.



الحسن البصري.. عبادته وخشيته وحسن خلقه:

أما بالنسبة لعبادته رحمه الله، وخشيته لله، وتقشفه، فإنه مع كونه جيد الملبس والمطعم، لكنه كان زاهداً، كان يصوم أيام البيض، والإثنين والخميس، وأشهر الحرم. وحكى ابن شوذب عن مطر قال: "دخلنا على الحسن نعوده فما كان في البيت شيء -لا فراش، ولا بساط، ولا وسادة، ولا حصير- إلا سريراً مرمولاً هو عليه، حَشْوُهُ الرمل" والسرير المرمول: الذي نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير، فيسمى مرمولاً. وقال حمزة الأعمى: ذهبت بي أمي إلى الحسن، فقالت: يا أبا سعيد ! ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنتُ أختلف إليه، فقال لي يوماً: [يا بني! أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطَّلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين] هذه الوصية بالبكاء من خشية الله، ودمع العين من هيبة الله تعالى وخوفه، وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي -لم يكن يأمر الناس بالشيء وهو لا يفعل، بل كان يقول ويفعل، ويفعل قبل أن يقول- وربما جئت إليه وهو يصلي، فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوماً: إنك كثير البكاء -دائماً تبكي- فقال: [يا بني! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ، يا بني! إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار إذا رحمك ستجد نفسك قد نجوت من النار]. قال إبراهيم اليشكري: "ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة". كأنه الآن قبل قليل جرت عليه مصيبة. وقال أحد مَن رآه: "لو رأيتَ الحسن، لقلتَ: قد بُث عليه حزن الخلائق". أي: جُمِعَتْ عليه. وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما، وكانا قليلاً الضحك والمزاح. لأنه إذا كان كثير البكاء من خشية الله فإن ذلك ولا شك سيؤثر في مزاحه وضحكه، فمن كان كثير البكاء كان قليل الضحك، ومن كان كثير الخشية والهيبة كان قليل المزاح. ومن حسن خلقه: أنه كان سمحاً في بيعه وشرائه، فكان إذا اشترى شيئاً وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه، كان يشتري بريال إلا ربع فيترك الربع للبائع، أو بريال ونصف فيترك النصف للبائع، وما ذاك إلا من طيب خلقه، لا يدقق ويفتش ويأخذ الكسور، وإذا اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقاً -لأن الدرهم يقسم إلى دوانق، والدانق بعض الدرهم- كمَّله درهماً، يقول: خذ الدرهم كاملاً، أو بتسعة ونصف كمله عشرةً مروءةً وكرماً. والآن بعض الناس يقولون: هناك صناديق للهيئات الخيرية في البقالات، الهيئة الخيرية أولى من صاحب البقالة، وهذا جيد وطيب، يأخذ هذه القروش ويضعها في هذا الصندوق من صناديق التبرعات، وهذا جيد أنه يجود بهذه الكسور لله تعالى. رأيت مرة منظراً غريباً في أحد البقالات الكبيرة: أجنبي كافر أعطى البائع الريالات وأخذ الفكة ووضعها في الصندوق الخيري، مع أنه كافر! لكن صحيحٌ هو لا ينتفع بها عند الله يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يجزي الكافر بحسناته يوم القيامة: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] لكن يعطونها في الدنيا، إنما يؤثر فيك أن ترى كافراً يتبرع لصندوق الإغاثة، أو لصندوق الفقراء.. وهو كافر!! وباع الحسن -رحمه الله- بغلة، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد ؟ -اتفقوا على الثمن ورضوا، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد ؟- قال: لك خمسون درهماً، أزيدك؟ -أي: هل تحتاج إلى زيادة؟- قال: لا. رضيت، قال: بارك الله لك. وهذا عين ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث ودعا: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).



ثناء العلماء على الحسن البصري:

وقد أثنى العلماء -رحمهم الله تعالى- على الحسن بالغ الثناء:- ولما استهل أبو نعيم في الحلية ترجمة الحسن البصري رحمه الله، قال: "ومنهم حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد، المشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاًَ، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً". والوقيذ أو الوقذ: أن يُضرب الشيء حتى يسترخي ويموت، أو يشرف على الموت، فكان لشهوته كابتاً. وعن علقمة بن مرثد قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فمنهم: الحسن بن أبي الحسن، فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، ما كنا نراه إلا أنه حديث عهد بمصيبة". قال الحسن: [نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئاً]. كان مشهوراً جداً بالمواعظ، وكانت مواعظه مؤثرة، لأن العبارات رقيقة تخرج من القلب، وعلى رسم الكتاب والسنة، [ويحك يابن آدم! هل لك بمحاربة الله طاقه، إنه من عصى الله فقد حاربه، واللهِ لقد أدركت سبعين بدرياً، أكثرُ لباسهم الصوف -أي: من زهدهم في الدنيا لا يجدون ولا يحرصون على التنعم- ولو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب، ولقد رأيتُ أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ما يجد عنده إلا قوته، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز وجل، فيتصدق ببعضٍ وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه]. يعني: هذا المتصدِّق محتاج أكثر من المتصدَّق عليه؛ لكن يجودون لله تعالى. وعن خالد بن صفوان، قال: لما لقيت مسلمة بن عبد الملك بـالحيرة، قال: يا خالد ! أخبرني عن حسن أهل البصرة، قلت: أصلح الله الأمير، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم مَن قِبَلي به: أشبه الناس سريرةً بعلانية هذا أولاً، السريرة تطابق العلانية؛ لا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا تصنع، ولا مجاملات. - وأشبه قولاً بفعل. قوله يشبه فعله، لا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، قوله وفعله مستويان متطابقان. - إن قعد على أمر قام عليه، وإن قام على أمر قعد عليه. - وإن أمر بأمر كان أعْمَلَ الناس به، وإن نهى عن شيء كان أَتْرَكَ الناس له. - رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه. قال: حسبك يا خالد! كيف يضل قومٌ هذا فيهم؟! فإذاً: الصالحون والعلماء والعباد والزهاد هم سراج وهاج يستضيء بهم الناس، والناس لا يهلكون وفيهم مثل هؤلاء، متى يهلك الناس؟ إذا انطفأت السرج، وإذا لم يوجد أحد ينير كيف يبصر العميان؟ ولذلك فإن وجود الدعاة في المجتمع رحمة لهذا المجتمع من عدة جهات: أولاً: أنهم من أسباب رفع العذاب عنهم: إذا وجد الصالحون والمصلحون في مجتمع فهم من أسباب رفع العذاب عن المجتمع. ثانياً: بهم يرزقون، وبهم يمطرون. ثالثاً: هم مصدر العلم، ومنهم يتعلم الجهَّال. رابعاً: هم مصدر الوعظ الذين يعظون الغافلين. خامساً: هم مصدر القدوة. سادساً: تنصلح أحوال الناس بمخالطتهم. ولذلك كلما كثروا في المجتمع كان دليلاً على صلاح المجتمع وصحته، وإذا قلوا أو انعدموا فهذا دليل على مرض هذا المجتمع أو موته. ولذلك يجب أن نحرص على تكثير الدعاة في المجتمع، ونفرح إذا رأينا عدد الصالحين في المجتمع يزيد؛ لأن هذا من أسباب سعادة المجتمع، أما إذا رأيت الصالحين ينقرضون ويقلون ويذهبون، ولا يأتي غيرهم، فهذا نذير شؤم وبلاء خطير. وبعض الناس لا يقدرون قيمة الصالحين في المجتمع، ولذلك ينابذونهم العداء.. يجهلون قدرهم.. يذلونهم.. يسخرون منهم.. يستهزئون بهم، لا يعطونهم ما يجب لهم من الحق، ولا يقدمونهم في المجالس ويسمعون لكلامهم، فلذلك ترى أمر هؤلاء الصالحين في ضعف؛ لأن الناس لم يعرفوا قيمتهم، ولم يعرفوا قدرهم. وأما إذا عرف المجتمع قدر الصالحين رأيتهم يُقَدَّمون في المجالس.. يقدمون في الحديث.. يُسْمَع لكلامهم.. يُنْزَل عند رأيهم، ويُبَتُّ حسب مشورتهم وأمرهم، ولذلك قال مسلمة لـخالد بن صفوان: كيف يضل قوم هذا فيهم؟! وفي سير أعلام النبلاء يقول الذهبي: "كان الحسن سيد أهل زمانه علماً وعملاً". وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "الإمام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الأجلاء علماً وعملاً وإخلاصاً". وقال العوام بن حوشب: "ما أشبه الحسن إلا بنبي". وعن أبي قتادة، قال: "الزموا هذا الشيخ -أي:الحسن - فما رأيت أحداً أشبه رأياً بـعمر منه". يعني: من رجاحة عقل الحسن شبه رأيه برأي عمر. ويقال: إن أنس بن مالك، قال: [سلوا الحسن فإنه حَفِظَ ونسينا]. وهو الصحابي! وقال مطر الوراق: "لما ظهر فينا الحسن جاء كأنما كان في الآخرة". فهو يخبر عما عايَن. كأنه واحد كان في الآخرة، كان في القبر ورأى البرزخ ورأى الموت والجنة والنار، والبعث والميزان والصراط، فكأنه واحد جاء من الدار الآخرة، فهو يخبر الناس عما رآه هناك. فهذا يكون من شدة تمثله لما أخبر الله به عن الدار الآخرة، كأنه جاء من الآخرة، وهذا يدل على تأثره. وقال قتادة: [ما جمعت علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه -يعني: علم الحسن زائد- غير أنه إذا أُشْكِل عليه شيء كَتَبَ فيه إلى سعيد بن المسيب -وسعيد بن المسيب سيد التابعين- وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن]. وقال أبو هلال: [كنت عند قتادة، فجاء الخبر بموت الحسن، فقلت: لقد كان غُمِسَ في العلم غَمْساً، قال قتادة: بل نَبَتَ فيه، وتحقَّبه، وتشرَّبه، والله لا يبغضه إلا حروري]. والحروريون هم: الخوارج، نسبة إلى بلدة حروراء، التي كان أول أمرهم بها، خرجوا منها وفيها، ولذلك لا يبغض الحسن إلا رجل من الخوارج. وقال: [ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن]. فالرجل كان بالإضافة إلى أدبه صاحب مروءة. وعن حجاج بن أرطأة عن عطاء: قال: [عليك بذاك -أي: الحسن - ذاك إمام ضخم يُقتدى به]. وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام. وقال بكر المُزَنِي: "مَن سره أن ينظر إلى أفقه ممن رأينا، فلينظر إلى الحسن". كان في حلقة الحسن البصري التي في المسجد حديث، وفقه، وعلم القرآن، واللغة، والوعظ، فبعض الناس صحبه للحديث ليسمع منه المرويات، وبعض الناس صحبه للقرآن ليسمع منه التفسير، وبعض الناس صحبه للبلاغة ليتعلم منه اللغة والفصاحة والبيان، وبعض الناس صحبوه للوعظ ليتعلم منه الإخلاص والعبادة. وقال أيوب السختياني: "لو رأيت الحسن، لقلت: إنك لم تجالس فقيهاً قط". لنسيتَ كلام الفقهاء بجانب كلامه. وقال الأعمش: "ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها". لأن الكلام الذي فيه حكمة لا يخرج إلا من رجل ارتضعها ووعاها فنطق بها. وقال رجل لـيونس بن عبيد: "أتعلم أحداً يعمل بعمل الحسن ؟ قال: والله ما أعرف أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بمثل عمله؟! قال: صفه لنا، أنت رأيته... هذا فائدة تربوية: الأجيال كانت تسأل عمن فات، فالذي لم ير الحسن يسأل من رأى الحسن، يقول: صفه لنا، كيف هو؟ كيف شكله؟ كيف سَمْته؟ كيف عبادته؟ كيف وعظه؟ هات من كلامه شيئاً، هات من علمه.. من فقهه.. ماذا سمعت منه؟ الآن ربما يموت العالم ويخرج رجل من جيل جديد لم يرَ هذا العالم.. هل يسأل عنه؟ هل تراه يهتم بالجيل الذي مضى؟! يقول لواحد من الذين عاصروا العالم أو عايشوه: صفه لنا، كيف سَمْته؟ كيف كلامه؟ هات لنا مسائل مما سمعته منه، نادراً! وهذه مشكلة؛ أن الأجيال لا تحرص على الارتباط بمن سبق، والسؤال عمن سبق، كان الواحد من السلف إذا ما رأى رجلاً فاضلاً صالحاً عالماً، فاته، مات قبل أن يولد هذا مثلاً، يسأل عنه: صفه لنا.. مهتم. قال: كان إذا أقبل -إذا رأيته آتٍ- فكأنه أقبل من دفن حميمه -كأنه الآن دفن أحب الناس إليه، كيف يكون وجه المصاب بالمصيبة؟ هكذا كان وجهه من الخشوع- وكان إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه -لو أتي بالأسير ليضرب عنقه، كيف يكون جلوسه؟ متخشعاً، هكذا كان جلوسه، لم يكن جلوسه جلوس أشر ولا بطر- وكان إذا ذُكِرَت النار عنده، فكأنها لم تخلق إلا له. بينما بعض الناس الآن لو تليت عليهم الآيات التي فيها ذكر جهنم، يقول: هذه للكفار، الحمد لله نحن مسلمون، ولا نحتاج، ولسنا معنيين بالأمر، مع أن الإنسان ينبغي أن يخاف على نفسه لأنه لا يدري ماذا يختم له، فقد يُختم له والعياذ بالله بخاتمة أهل النار، فإذاً: لا بد أن يخاف على نفسه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: [أما بعد: فإنك لن تزال تعنِّي إليَّ رجلاًَ من المسلمين في الحر والبلاد، تسألني عن السنة كأنك إنما تعظمني بذلك، وأيْمُ الله لحسبك بـ



جرأة الحسن البصري وصدعه بالحق، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

أما ما كان عليه من الجرأة والصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله مواقف، منها:



موقف الحسن مع عمر بن هبيرة:

جاء عن علقمة بن مرثد أنه قال: لما وَلِي عمر بن هبيرة العراق، أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي، فأمر لهما ببيت، وكانا فيه شهراً، ثم إن الخصيَّ -وكان عند الأمراء هذا النوع من الناس- غدا عليهما ذات يوم، فقال لهما: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر بن هبيرة -الأمير- يتوكأ على عصاً له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يُنْفِذُ كُتُباً، أعرف أن في إنفاذها الهلكة -يعني: يعطيني أوامر في الكتب لو أنفذتها ففي إنفاذها الهلكة- فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان لي في متابعتي له فرجاً؟ أي: هل أنا مكره؟ فقال الحسن: يا أبا عمرو ! -وهو الشعبي، أجب الأمير، فتكلم الشعبي، فانحط في حِيَل ابن هبيرة، -يعني: كأنه يلتمس له أعذاراً وأشياء- فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟! قال: أيها الأمير! قد قال الشعبي ما قد سمعتَ. قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: يا عمر بن هبيرة ! يوشك أن يتنزل بك ملك من ملائكة الله تعالى، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك. يا عمر بن هبيرة ! إن تتقِ الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل. يا عمر بن هبيرة ! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك. يا عمر بن هبيرة ! لقد أدركتُ أناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة. يا عمر بن هبيرة ! إني أُخوِّفك مقاماً خوَّفَكَهُ الله تعالى، فقال: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]. يا عمر بن هبيرة ! إن تكُ مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تكُ مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكََلَكَ الله إليه. قال: فبكى عمر بن هبيرة، وقام بعبرته. أي: أن البكاء متواصل -متأثر- وقام من المجلس ولا تزال عبرته فيه. هذا ما كان من موعظة الحسن لهذا الأمير، وهذا كلام نادر حتى في لفظه، وفي طريقته وأسلوبه. ولذلك من المهم أن نتعلم الأسلوب، ومثل هؤلاء العظماء ينبغي أن نتشبه بهم في أساليبهم. وقد رُوِيَت هذه القصة بسياق آخر: أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراق لما دخل في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي في سنة [103هـ] وقال: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر، فما ترون؟! -إذا أمرني بشيء فيه معصية مثلاً؟-. فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقِيَّة. فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن ؟ فقال: يـابن هبيرة ! خَفِ الله في يزيد، ولا تخَفْ يزيد في الله. إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله. وأُوْشِكَ أن يُبعث إليك ملَك فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك. يـابن هبيرة! إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأجازهم ابن هبيرة، وأضعف جائزة الحسن. فقال الشعبي لـابن سيرين: سَفْسَفْنا له، فسَفْسَفَ لنا.



موقف الحسن مع الحجاج:

الموقف من الحجاج لا شك أنه موقف صعب جداً؛ لأن الحجاج كان يقتل على أتفه وأدنى سبب، واخترع أساليب في التعذيب، وبدأ بأشياء من الظلم فتح بها أبواباً شنيعة، وكانوا أحياناً يفعلون بالناس أفعالاً لا تخطر بالبال، مثل: السلخ، يأتون بإنسان يسلخونه، يسلخون جلده عن سائر جسده سلخاً، وربما ولَّوا ذلك لبعض الكفرة، كما أن بعض أهل السنة أتى به أحد هؤلاء الظلمة، فوَلَّى سلخه ليهودي، قال لليهودي: اسلخه، فبدأ بسلخه من الرأس، حتى أن اليهودي رحمه، فضربه بالسكين في قلبه فمات، رحمه من إكمال السلخ. فكان يحصل ظلم عظيم، وخصوصاً ممن يبطش من أمثال الحجاج! بعث الحجاج بن يوسف الظالم إلى الحسن وقد هَمَّ به -نوى له نية سوء- فلما دخل عليه، وقام بين يديه الحسن، قال: يا حجاج ! كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن. موعظة بكلمات يسيرة جداً، مثل هؤلاء ربما لا يمكن الكلام معهم، فسؤالان لخص بهما المسألة كلها، انتهت المهمة، وهي بهذه البساطة، والرجل إذا كان صاحب عبادة ودين؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الأعداء رهبته فلا يجرءون عليه.



مواعظ الحسن البصري:

وله رحمه الله تعالى مواعظ بالغة: منها ما وعظ بها عمر بن عبد العزيز، من باب النصح لذلك الإمام الخليفة العظيم، ووعظه بمواعظ: فمنها -من الأشياء التي نُقِلَت-: [اعلم أن التفكير يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة، التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخُطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق حين أخبر عنها مُدَّكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ظناً، وما هذا منا لها إلا عشقاً، ومن عشق شيئاً لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به... ثم قال له: فاحذرها الحذر كله، فإنها مثل الحية؛ لين مسها، وسمها يقتل، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها..]. وأتى له بكلام في ذم الدنيا ووجوب الحذر منها، وعدم الانغماس في نعيمها، وأنها قد عرضت على من هو خيرٌ منا النبي عليه الصلاة والسلام فرفضها، ورفض أن يكون ملِكاً، واكتفى بأن يكون عبداً رسولاً. وأمره أن يقتدي بالأنبياء ومن مضى من الصالحين. وكان تذكيره لـعمر بن عبد العزيز بالدنيا؛ لأن عمر بن عبد العزيز تحته الخزائن وبيت المال، والأموال تجري بين يديه، ولذلك ركز على قضية الدنيا، ومكانتها، وحقيقتها، لأنه يحتاج أشد ما يحتاج إلى مثل هذا الكلام. وهكذا الإنسان الداعية الحكيم ينصح كل إنسان بحسب حاله. فأنت إذا وعظت تاجراً يحتاج أن تكلمه في فتنة المال. وإذا وعظت طالب علم يحتاج أن تكلمه -مثلاً- في مزالق طلب العلم، ومسألة المراءاة وخطورتها، والعمل بالعلم، والحذر من أن يعلِّم الناسَ شيئاًَ ولا يعمل به. وإذا أردت أن تعظ بائعاً في السوق تحتاج أن تكلمه عن فتنة النساء. وإذا وعظت شاباً يحتاج أن تكلمه عن الشهوات واتقائها. وإذا وعظت رجلاً كبيراً حذرتَه من طول الأمل، ووجوب حسن العمل، وأن الإنسان إذا بلغ الستين أعذر الله إليه، وينبغي أن يتفرغ للعبادة. فيؤخذ من كلام الحسن رحمه الله: أن الإنسان يعظ الشخص بحسب حاله؛ فإذا كان صاحب سلطان ذكره بقدرة الله وقوته، وبطشه، وانتقامه.. وهكذا، فتكون النصيحة بحسب المنصوح له وبحسب حاله.



الفنون التي برع الحسن البصري فيها:

كان الإمام الحسن البصري -رحمه الله- إماماً في عددٍ من فنون العلم، وكان إماماً في العلم حقاً.



فن التفسير.. وبعض آرائه:

من الفنون التي برز فيها رحمه الله: فن التفسير، ولذلك نقل عنه المفسرون في تفاسيرهم كثيراً من الأقوال في آيات عديدة من كتاب الله تعالى.

1/ فمما ذكره -رحمه الله- في قوله عز وجل: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] [إي والله! ابتلاه بأمر فصبر عليه؛ ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائمٌ لا يزول، فوجَّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بـالشام مهاجراً إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان فصبر على ذلك]. وذكر المفسرون -رحمهم الله- أيضاً: أن مما ابتلاه الله سبحانه وتعالى به: سنن الفطرة؛ خمس في الرأس، وخمس في الجسد (فأتمهن).

2- ومما ذكره رحمه الله في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152] في سورة آل عمران، في قصة غزوة أحد، قال وقد ضرب بيديه: وكيف عفا عنهم وقد قُتِل منهم سبعون، وقُتِل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيته، وشُجَّ وجهه؟ ثم يقول: قال الله عز وجل: قد عفوتُ عنكم إذ عصيتموني، ألا أكون استأصلتكم -فبيَّن أن عفو الله تعالى عنهم، أنه لم يستأصلهم، مع عظم المصائب التي نزلت بهم- ثم يقول: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، غضابٌ لله، يقاتلون أعداء الله، نُهُوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم- وهو قتل سبعين منهم، وما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام من الجراحات- وما أشيع من قتله، قال الحسن رحمه الله: فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم ألا بأس عليه، فسوف يعلم!! ومعنى قوله: إن هؤلاء الصحابة أكرم خلق الله، وصحبوا نبي الله، خرجوا للجهاد في سبيل الله، قاتلوا أعداء الله؛ لأن بعضهم ارتكب عصياناً، لما ترك الرماة الجبل ونزلوا؛ ابتلاهم الله بهذا الشيء، وهذا الغم العظيم في قتل سبعين منهم، واليوم أفسق الفاسقين يتجرأ على كل كبيرة، ويظن أنه لا بأس عليه، فكأنه يقول: خافوا الله! هؤلاء الصحابة على عِظَمِهِم هكذا ابتلاهم الله أو غمهم بهذا الغم، فكيف بالفسقة!

3- وكذلك مما نُقِل عنه -رحمه الله تعالى- في التفسير، في ذكر آيات من كتاب الله عز وجل أشياء كثيرة جداً أوردها المفسرون، حتى أنه لا تخلو سورة من سور القرآن في التفسير إلا وتجد للحسن رحمه الله تعالى فيها قولاً أو أقوالاً، وهذا يدل على ضلوعه رحمه الله في التفسير، وكان ينتهز الفرصة ليذكر من خلال تفسيره بعض الآيات بعض العظات التي يرسلها.



فن الحديث عند الحسن البصري:

أما بالنسبة للحديث، فإن الحسن البصري رحمه الله ولاشك كان قد نشأ في الفترة التي كان النقل فيها من غير كتابة وتدوين، وهي مرحلة الحفظ في الصدور، لأنه توفي في سنة [110هـ]، وهذا الوقت الذي بدأ فيه التدوين، ولذلك ليس للحسن كتاب صنفه في الحديث، لأن عصر التدوين لم يكن قد بدأ بعد. ولكن الحسن رحمه الله تعالى له مرويات كثيرة جداً، وبعضُ الأسانيدِ التي فيها ذِكْرُ الحسنِ متصلٌ، وبعضُها مرسلٌ، والحديث المرسل كما نعلم: ما أضافه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام دون ذكر الصحابي، ولاشك أن المرسل عند العلماء من أقسام الحديث الضعيف، ما عدا استثناءات يسيرة ذُكِرت في كتبهم. فلو قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن هذا حديث مرسل، وأنه حديث ضعيف، لكنه لو ذكره بالإسناد المتصل بذكر الصحابي الذي حدثه، أو التابعي عن الصحابي الذي حدثه فيكون الحديث عندئذٍ متصلاً صحيحاً، ما دام أن الحسن رحمه الله قد صرح بالتحديث. وقد سمع الحسن رحمه الله من بعض الصحابة، مثل: أنس وسمرة رضي الله عنهما، وهناك قاعدة في المراسيل، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "مرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات شيء أَضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما يأخذان عن كل أحد". والمقصود أنه إذا قال: قال رسول الله، فلا نستطيع بطبيعة الحال أن نحكم بصحته، بل إنه نوع من الحديث الضعيف، حيث أنه منقطع فيما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك الحسن روى عن أبي هريرة ولم يسمع منه، وكان قد جاء هذا إلى الحجاز وهذا خرج إلى العراق فلم يتقابلا، والتمس العلماء للحسن في قوله: أخبرنا أبو هريرة، التمسوا له أنه يقصد أن أبا هريرة حدث أهلَ البصرة وهو منهم، ولكن لم يكن معهم عندما حدثهم أبو هريرة. وبعض المصطلحات: (حدَّثنا) و(أخبرنا) و(عن) ونحو ذلك لم تستقر من جهة معنىً مخصوص أو استعمال مخصوص إلا بعد الحسن رحمه الله تعالى.



فن الفقه.. وبعض آراء الحسن الفقهية:

كان الحسن البصري فقيهٌ، -ولا شك- له باع عظيم في الفقه، ونُقِلَت عنه آراؤه، فكلُّ مَن صنف في الفقه لا بد أن يذكر من أقوال الحسن شيئاً، ولم يصل إلينا فقهه مجموعاً كما نقل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولكنه نُقِل منثوراً في بطون كتب الحديث والفقه، لكن الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء ذكر عن الحميدي أن القاضي محمد بن مفرج ألف كتاب فقه الحسن البصري في سبعة مجلدات، جمع فقهه فيها رحمه الله تعالى. ولا بأس من ذكر بعض المسائل التي تعرِّف ببعض آراء الحسن رحمه الله: فمثلاً:

1/ ذهب رحمه الله إلى أنه لا يجب الترتيب في أعضاء الوضوء، مع أن المذهب الراجح في هذا وجوب الترتيب.

2/ يرى رحمه الله أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء بحال، وهذا هو الراجح إن شاء الله، ما لم يخرج منه شيء، فمجرد لمس المرأة لا ينقض الوضوء.

3/ كان يرى وجوب نقض المرأة شعرها عند الغسل من الحيض، وهو قول الحنابلة.

4/ كان -رحمه الله- يرى أن المتيمم يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، ويمس المصحف، ويقرأ القرآن، ما دام أنه لم ينقض هذه الطهارة التي عملها بالتيمم، فما دام أنه لم يحدث فإن تيممه باقٍ صحيح يصلي فيه ما شاء من الفرائض والنوافل، ويمس المصحف، ويطوف بالبيت حتى يُحْدِث، ولا يلزمه التيمم لكل صلاة كما قال به بعض أهل العلم.

5/ ذهب إلى أنه يجوز التيمم للصلاة على الجنازة لمن خاف فواتها، فإذا خاف فوات الجنازة ورفعها وذهابها وهو على غير طهارة بالماء جاز له أن يتيمم حتى مع وجود الماء.

6/ ذهب إلى أنه يُرَش من بول الغلام ويُغْسل من بول الجارية، وهذا مقتضى الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

7/ كان يرى أن للرجل السفر قبل دخول وقت الجمعة، فما دام وقت الجمعة لم يدخل بعد فيجوز لك أن تسافر من البلد حتى لو كان اليوم يوم جمعة، وأن الجمعة لا تمنع من السفر كما قال عمر رضي الله عنه. وذهب إلى كراهة دفن الميت ليلاً، واحتج بالحديث الصحيح الوارد في هذا، وهذا الحديث قد ذكره الإمام مسلم رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك).

9/ جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، والراجح في هذه المسألة: وجوب إخراج زكاة الفطر من الطعام، وعدم جواز إخراجها بالقيمة.

10/ ذهب إلى أن المرضع إذا أفطرت في رمضان خوفاً على ولدها، والحامل إذا أفطرت خوفاً على جنينها فليس عليهما كفارة بل عليهما القضاء فقط، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم؛ من أن المرضع والحامل ليس عليهما إلا القضاء، أما الكفارة فليس عليهما كفارة ما دامتا قد أفطرتا لهذا العذر فهما أشبه بالمريض.

11/ عدم جواز بيع العُربون، والراجح: جواز بيع العُربون، وهو: أن يدفع إلى البائع جزءاً من الثمن إذا اشترى، ويُحْتَسَب من الثمن، وإذا ألغى البيع وغيَّر ما عَقَدَه فإن العربون يذهب عليه، والحديث الوارد في النهي عن بيع العُربون حديث ضعيف، فلذلك المسألة باقية على الأصل في جواز هذا البيع.

12/ وذهب الحسن رحمه الله إلى جواز مشاركة المسلم لليهودي والنصراني، والمعنى جواز أن يدخل معهم في شركة أو في تجارة بشرط: ألا يخلو اليهودي أو النصراني بالمال دونه -أي: دون المسلم- ويكون المسلم هو الذي يلي المال؛ خشية العمل بالربا، لأنه لو تركت إدارة الشركة أو التجارة لليهودي أو النصراني يمكن أن يعمل بالحرام وأن يأخذ الربا، أما إذا كانت الإدارة للمسلم أو له الإشراف عليها فإنه لا بأس أن يشارك الكافر في التجارة. وهناك مسألة: إذا قال خذ المال مضاربةً ولم يسمِّ للعامل شيئاً من الربح فما نصيب العامل؟ واحد أعطى شخصاً مالاً، قال: اتَّجِر به، هذه شركة مضاربة: المال من شخص والجهد والعمل من شخص آخر، ولم يحدد له نسبة، فذهب رحمه الله إلى أن الربح بينهما مناصفة إذا لم يحدد نسبة وحصلت التجارة وحصلت أرباح فالربح بينهما مناصفة.

13/ ذهب رحمه الله إلى جواز تأجير المستأجر للعين بأكثر مما استأجر به، فإذا استأجر شيئاً جاز أن يؤجره، وذكر أهل العلم أنه يجوز أن يؤجره ما دامت مدة الإجارة سارية المفعول، وما دام أنه قد ملك المنفعة فيجوز أن يعطيها لغيره ويؤجرها أيضاً، لكن بشرط ألا يكون استعمال الثاني أكثر من الأول، فلو كان -مثلاً- عنده خمسة أولاد، فلا يجوز أن يؤجر البيت الذي استأجره على إنسان له عشرة، أو استأجره سكنى فلا يجوز له أن يؤجره على عمال أو على ورشة بحيث يستعملون الشيء المستأجَر أكثر مما كان سيستعمله لو كان سكن فيه. هذا الشرط عند بعض أهل العلم في جواز تأجير الشيء المستأجر.

14/ كان يرى بأن الخُلْع يُعَدُّ طلقة، وذهب عدد من أهل العلم إلى أنه يعتبر فسخاً ولا يعتبر طلاقاً.

15/ ذهب رحمه الله إلى وقوع طلاق السكران، وأن السكران يتحمل الطلاق، وهذا رأي جمهور أهل العلم، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وكذا ابن القيم وغيرهما إلى أن طلاق السكران لا يقع، ويوجد طرف بريء في الموضوع ألا وهي الزوجة، وهو لا يدري عن تصرفاته، والمسألة فيها كلام طويل، وهذا رأيه رحمه الله.

16/ ثم رأى أيضاً في مسألة صيام شهرين متتابعين أنه إذا كان على الإنسان كفارة الظهار -مثلاًَ- فإن السفر المبيح للفطر لا يقطع التتابع، فلو شرع في صيام شهرين ثم سافر سفراً طبيعياً لم يقصد منه تحايلاً -سافر سفراً مشروعاً- فإنه يفطر في هذا السفر، وإفطاره لا يقطع التتابع.

17/ أفتى رحمه الله بأن الزوج إذا أعسر بالنفقة كان للزوجة الخيار في أن تصبر عليه أو تطلب من الحاكم التفريق بينها وبين زوجها.

18/ ذهب إلى أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل بالردة، فإذا ارتدت المرأة تقتل مثلما يقتل الرجل. وأن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة.

19/ وفي باب الأطعمة: ذهب رحمه الله إلى تحريم أكل لحم القرد وتحريم بيعه، قال ابن عبد البر: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافاً أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه. وهو مسخ، فيكون من الخبائث المحرمة، وبعض العلماء ذهبوا إلى جواز بيع القرد، قالوا: لأنه يُنْتَفَع منه فيُمْسِك الشمعة ويحفظ الأمتعة، ولأنه يقبل التعليم، أي أنه يمكن تدريبه على حراسة وحفظ الأمتعة.

20/ وفي العقيقة: ذهب الحسن رحمه الله إلى وجوبها، وهو الذي روى حديث العقيقة عن سمرة رضي الله عنه، وذهب جمهور أهل العلم إلى استحباب العقيقة وعدم وجوبها.

21/ ذهب الحسن رحمه الله إلى عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس إذا حلف يميناً كاذبةً غموساً، وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، فإنه ليس عليه كفارة لأنها أعظم من أن تكفر، وليس لها إلا التوبة، وذهب بعض أهل العلم كـالشافعي رحمه الله إلى أنه تجري الكفارة حتى في اليمين الغموس إذا حلف كاذباً.

22/ رأى جواز إخراج الكفارة قبل الحلف باليمين، يعني: إذا أراد أن يحنث في يمينه، حلف على شيء وأراد أن يخالفه فإنه يجوز له أن يكفر قبل أن يحنث، وفعله صحيح.

23/ كان يرى أن المريض الذي عنده الماء ولا يجد من يناوله الماء أنه يتيمم.

24/ ومن فتاويه أيضاً في صلاة الجماعة: قوله: [إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة عليه فلا يُطِعْها]، فإذا منعته أمه من الذهاب إلى المسجد لصلاة العشاء في جماعة شفقة عليه لم يُطِعْها.

25/ وقال الحسن فيمن مات وعليه صوم: [إن صام عنه ثلاثون رجلاً يوماً واحداً جاز]، كل واحد من الثلاثين رجلاً يصوم يوماً واحداً عن شخص عليه قضاء من رمضان ومات ولم يقضه، أنه يجوز ذلك.

26/ وأيضاً من فتاويه، قال: [من تكفَّل عن ميتٍ دَيناً فليس له أن يرجع]، فإذا مات شخص وعليه دين، فقال رجل من الناس الأحياء: أنا عليَّ دينه، أو أنا أتكفل بدينه؛ فليس له أن يتراجع بعد ذلك ويُلْزَم بوفاء الدَّين.



درر من كلام الحسن البصري:

اشتهر الحسن رحمه الله بالحكم والمواعظ. والمجتمع في ذلك الوقت بدأت تنتشر فيه الحياة المادية؛ بدأ ينتشر فيه الترف، وينتشر فيه الاستغراق في الملذات والشهوات، ثم كثرت الفتوحات، وجاءت الأموال، وكثير من الناس انشغل بهذه الأموال التي جاءت من الفتوحات، وصاروا يعمِّرون العمائر، ويزرعون، ويشتغلون بالإماء والنساء ونحو ذلك، فبدأ دخول الترف في المجتمع الإسلامي؛ فكان لا بد من قيام من يغسل القلوب، ويقوم بالوعظ، ويذكر الناس حتى لا ينشغلوا بهذه الملذات عن العمل للآخرة. فكانت كلمات الحسن البصري رحمه الله غاية في التأثير، وتقدمت طائفة من مواعظه، ونضيف إليها طائفة أخرى:

1/ كان يقول رحمه الله: [بئس الرفيقان: الدينار، والدرهم؛ لا ينفعانك حين يفارقانك] فالصديق وقت الضيق، وهذان الرفيقان؛ الدينار والدرهم بئس الرفيقان هما.. لا ينفعانك حين يفارقانك، وكذلك إذا فارق مالَه لم ينفعه، ولكن الذي تصدق به يبقى له نفعه.

2/ وقال الحسن: [يحق لمن يعلم أن الموت موردُه، وأن الساعة موعدُه، وأن القيام بين يدي الله مشهدُه أن يطول حزنه].

3/ وقال رحمه الله تعالى: [يابن آدم! عملك.. عملك، فإنما هو لحمُك ودمُك، فانظر على أي شيء تلقى عملَك، إن لأهل التقوى علامات يُعرَفون بها: صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخَلْق مما يقرب إلى الله عز وجل].

4/ وقال رحمه الله: [يابن آدم! دينك.. دينك.. فإنما هو لحمُك ودمُك، إن يسْلَم لك دينُك يسْلَم لك لحمُك ودمُك، وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله، فإنها نار لا تطوى، وجرح لا يبرأ، وعذاب لا ينفد أبداً، ونفس لا تموت].

5/ وقال هشام: سمعت الحسن يقول: [والله لقد أدركتُ أقواماً ما طُوِي لأحدهم في بيته ثوب قط، ولا أَمَر في أهله بصنعة طعام قط، وما جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط، وإن كان أحدهم ليقول: لوددت أني أكلت أكلة في جوفي مثل الآجُرَّة].

6/ ويقول: [بلغنا أن الآجُرَّة تبقى في الماء ثلاثمائة سنة، ولقد أدركتُ أقواماً إن كان أحدهم ليرث المال العظيم وإنه لمجهود -شديد الجهد- فيقول لأخيه: يا أخي! إني قد علمت أنَّا ذو ميراث -وهو حلال- ولكن أخاف أن يفْسِد عليَّ قلبي وعملي فهو لك لا حاجة لي فيه، فلا يرزأ منه شيئاً أبداً، وإنه مجهود] شديد الجهد.. شديد الجوع.. شديد الحاجة.. يرث مالاً عظيماً ويعطيه لغيره!

7/ وقال أيضاً: [يابن آدم! جمعاً.. جمعاً.. في وعاء، وشداً.. شداً.. في وكاء، رَكوب الذلول، ولَبوس اللين، ثم قيل مات فأفضى والله إلى الآخرة!! إن المؤمن عَمِل لله أياماً يسيرة فوالله ما ندم أن يكون أصاب من نعيمها ورخائها، ولكن راقت الدنيا له فاستهانها وهضمها لآخرته].

8/ وقال رحمه الله تعالى: [إن أفسق الفاسقين الذي يركب كل كبيرة، ويسحب عليها ثيابه، ويقول: ليس علي بأس، سيعلم أن الله تعالى ربما عجل العقوبة في الدنيا وربما أخرها ليوم الحساب].

9/ وقال الحسن: [رحم الله رجلاً لَبِس خَلِقاً، وأكل كسرة، ولصق بالأرض، وبكى على الخطيئة، ودأب في العبادة].

10/ وقال: [يابن آدم! السِّكِّين تُحَدُّ، والكبش يعتلف، والتَّنُّور يُسْجَر]. هذا في الدنيا، إذا أراد الإنسان أن يشوي خروفاً، فإنه يسَنُّ السِّكِّين، ويعلف الكبش حتى يسمن، ويسجر التَّنُّور ليُنْضِج اللحم؛ ولكنه أيضاً يصلح مثالاً وتذكيراً للعبد في الدنيا: السِّكِّين تُحَدُّ: يعني: الموت قادم. والكبش يعتلف: الإنسان يأكل ويرتع في شهواته. والتَّنُّور يُسْجَر: يعني: جهنم.

11/ وقال مرة لشاب مر به وعليه بردة: [إِيْهٍ يابن آدم! مُعْجَبٌ بشبابه.. مُعْجَبٌ بجماله.. مُعْجَبٌ بثيابه، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك لاقيت عملك، فداوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم].

12/ وسمع الحسن رجلاً يشكو إلى آخر، فقال: [أما إنك تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك]، كأنه يشتكي القضاء أو يشتكي القدر، فيقول له: أنت تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك! تشتكي القَدَر إلى المخلوق!

13/ ووصف السلف ممن سبقه، فقال: [أدركتُ من صدر هذه الأمة قوماً كانوا إذا أجَنَّهم الليل فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة سرَّتهم، وسألوا الله أن يقبلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفرها لهم].

14/ وكان يقول: [رحم الله امرءاً خلا بكتاب الله فعرض عليه نفسه -عرض نفسه على القرآن- وقارَن، فإن وافقه حَمِد ربه وسأله الزيادة من فضله، وإن خالفه اعتقب وأناب ورجع من قريب، رحم الله رجلاً وعظ أخاه وأهله، فقال: يا أهلي! صلاتكم.. صلاتكم..! زكاتكم.. زكاتكم..! جيرانكم.. جيرانكم..! إخوانكم.. إخوانكم..! مساكنكم.. مساكنكم..! لعل الله يرحمكم؛ فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبدٍ من عباده، فقال: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً [مريم:55]. يابن آدم! كيف تكون مسلماً ولم يسلم منك جارك؟! وكيف تكون مؤمناً ولم يأمنك الناس؟!].

15/ وقال الحسن رحمه الله حاكياً إخلاص السلف/: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره، يعقد مقارنة ويقول: من مضى كان الواحد منهم يصلي ويعبد الله عشرين سنة وجاره لا يحس أنه قام ليلة أو أنه كان يتعبد، واليوم الواحد منا يصلي ليلة أو بعض ليلة وتراه وقد استطال على جاره، وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون -مجموعة يجلسون يذكرون الله تعالى ويقرءون كتاب الله- فتجيء الرجلَ عبرتُه -الدمع يسبقه- فيردها ما استطاع -أي: حتى لا يظهر أمام الناس أنه خاشع ومتأثر- فإن غُلب قام عنهم، حتى لا يكون مظهراً للتأثر أمامهم.

16/ وعاد الحسن رحمه الله عليلاً قد شفي من علته، فأراد أن يعظه، فقال: [أيها الرجل! إن الله قد ذكرك فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال: إنما المرض ضربة سوط من ملَك كريم، فإما أن يكون العليل بعد المرض فرساً جواداً، وإما أن يكون حماراً عثوراً عقوراً] فالمرض هذا كضربة سوط على الدابة، فإما أن تنفع في الدبة فتجعلها تجري وتعدو، وإما ألا تكون الدابة مِمَّا ينتفع بالضرب فتكون عثورة عقورة؛ ولذلك شبَّهه بهذا، والعبد إذا أصابه المرض إما أنه يتعظ ويجعل سيره إلى الله حثيثاً بعد المرض، يحمد الله أن شفاه منه، وإلا فإن المرض لن ينفعه ولن يزيده إلا غفلة.

17/ وقال: [المؤمن في الدنيا كالغريب، لا ينافس غيره فيها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة ونفسه منه في شغل]. وقال أيضاً في الإنفاق في سبيل الله: [من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية] إذا أيقنت أن كلَّ ما ستنفـقه فإنه معوَّضٌ ومـخلوف عليك به فإنك ستجود، [من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية ].

19/ وقال الحسن للمغيرة التميمي: [إن مَن خوَّفك حتى تلقى الأمن خيرٌ لك مِِمَّن أمَّنك حتى تلقى الخوف] فإذا جاء واحد وخوفك بالله وباليوم الآخر فلا تتضايق منه، هذا الذي يخوفك الآن في الدنيا حتى تلقى الأمن يوم القيامة أفضل من الذي يأتي ويعطيك من أنواع الأمل والفسحة، ويحدثك عن أشياء تأمنك حتى تلقى خوفاً، صحيحٌ أنك في الدنيا تسر به وبكلامه والجلوس إليه، ولكن ما الخير إذا كنت في الآخرة ستلقى الخوف؟!

20/ وقال: [كان فيمَن كان قبلكم أرق منكم قلوباً، وأصفق ثياباً -ثيابهم أسمك، ليس عندهم ثياب ناعمة، ثياب سميكة، ولكن قلوب رقيقة- وأنتم أرق ثياباً وأصفق منهم قلوباً]، وأنتم -يقول لجيله ومن معه- بالعكس: ثيابكم رقيقة لينة؛ ولكن القلوب صفيقة.

21/ وقال الحسن أيضاً وهو من كلامه في الأدب: في الطعام اثنتا عشرة خصلة: أربع فريضة، وأربع سنة، وأربع أدب:

أما الفريضة ( الواجبة ): 1- التسمية. 2- استطابة الأكل، فلا بد أن يكون الطعام حلالاً. 3- الرضا بالموجود. 4- الشكر على النعمة.

وأما السنة: 1- الجلوس على الرجل اليمنى. 2- الأكل من بين يدي الآكل. أي: يأكل مما يليه ولا يتعدى إلى ما يلي غيره. 3- تناول الطعام بثلاثة أصابع باليد اليمنى. هذا إذا كان مِمَّا يؤكل كالثريد، أما المرق فيشرب شرباً. 4- لعق الأصابع.

وأما الأدب: 1- غسل اليد قبل الطعام وبعده. 2- تصغير اللقم. 3- إجادة المضغ. 4- صرف البصر عن وجوه الآكلين؛ فليس من الأدب أن ينظر إلى وجوه الآكلين وهم يأكلون أثناء الطعام.



من أخبار الحسن البصري ومناقشاته:

الحسن البصري رحمه الله له أخبار ومناقشات ولقاءات حصلت مع بعض الناس، ومواعظ وجهها إلى بعض الأشخاص، منهم الخلفاء، كما فعل مع عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان بعض الناس يأتيه ليعظه مما اشتُهر عنه من الوعظ، فكان الواحد إذا أحس غفلة أو قسوة أو أراد أن يزيد إيمانه جاء إلى الحسن. يقول عمرو بن ميمون بن مهران: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده، ثم اندفعنا إلى منزل الحسن فطرقت الباب، فخرجت إلينا جارية، فقالت: من هذا؟ قلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فسمع الحسن فخرج إليه فاعتنقه ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد! قد أنست من قلبي غلظة فاستَلِّنَّ لي منه. أي: ليِّن لي قلبي. فقرأ الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:105-207]. قال: فسقط الشيخ فرأيته يفحص برجله كما تفحص الشاة المذبوحة، فأقام طويلاً ثم أفاق، فجاءت الجارية، فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا. فأخذت بيد أبي فخرجت به، ثم قلت: يا أبتاه! هذا الحسن ! قد كنت أحسب أنه أكبر من هذا! قال: فوكزني في صدري وكزة، ثم قال: يا بني! لقد قرأ علينا آية لو فهمتَها بقلبك لبقي لها فيك كُلُوم، والكلم هو: الجرح، لبقي فيه جروح من تأثير هذه الآية. وكان يعرف الظَّلَمَة من غيرهم وبالذات الحجاج، وتقدم موعظته للحجاج وموقفه منه. ومن القصص التي حدثت في هذا: أن رجلاً أتى الحسن فقال: يا أبا سعيد ! إن حلفت بالطلاق أن الحجاج في النار، فما تقول؟ أقيم مع امرأتي أم أعزلها؟... حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فإذا كان الحجاج في النار يبقى مع زوجته، وإذا لم يكن في النار فيجب أن يفارقها، ولكن مصير الناس لا يعلم بعد الموت، وأهل التوحيد يدخلون تحت المشيئة، وإذا كان كافراً فهو في النار بلا شك. فقال له الحسن: قد كان الحجاج فاجراً فاسقاً، وما أدري ما أقول لك، إن رحمة الله وسعت كل شيء. وإن الرجل أتى محمد بن سيرين فأخبره بما حلف، فرد عليه شبيهاً بما قاله الحسن. وإنه أتى عمرو بن عبيد، فقال له: أقم مع زوجتك، فإن الله تعالى إن غفر للحجاج لم يضرك الزنا. وبطبيعة الحال فإن عقد الزواج إذا كان صحيحاً فهو باق، فلو أن أحداً طلق طلاقاً مشكوكاً في وقوعه، قال عبارة فيها شك، والنكاح صحيح، فما هو الحكم؟ الحكم أن النكاح يبقى على أصله حتى نتأكد من وقوع الطلاق. وكان الحسن يشجع الناس على تعلم اللغة العربية، فعن أبي حمزة، قال: قيل للحسن في قوم يتعلمون العربية، قال: [أحْسَنوا، يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم]. وقال الحسن لـفرقد بن يعقوب: [بلغني أنك لا تأكل الفالوذج -والفالوذج نوع من الحلوى نفيس، كان يوجد في ذلك الزمان- فقال: يا أبا سعيد ! أخاف ألَّا أؤدي شكره -يعني: ناقش هذا الرجل، ذلك الرجل كان لا يأكل هذا النوع من الطعام النفيس، فـالحسن سأله: سمعت أنك لا تأكل الفالوذج! لماذا؟ قال: يا أبا سعيد ! أخاف ألا أؤدي شكره- قال الحسن: يا لُكَع! هل تقدر أن تؤدي شكر الماء البارد الذي تشربه؟] يعني: إذا كانت المسألة تتوقف على أننا لا نأكل أي شيء خوفاً من ألا نؤدي شكره فلن نأكل شيئاً؛ قال: حتى الماء البارد لا نؤدي شكره، فلذلك ليس إلا شكر النعمة، والاستغفار. ومن المواقف العظيمة التي دوِّنت في سيرته -رحمه الله- في معاملة أعدائه، قيل له: [إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه طبق حلوى، وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك فكافأتك]. وهذا موقف مؤثر ولا شك، يحمل الخصم على الرجوع وترك ما هو عليه.



موقف الحسن البصري من المبتدعة:

كان الحسن رحمه الله مقاوماً للبدعة، ومعلوم أن واصل بن عطاء رأس المعتزلة كان من تلاميذ الحسن إلى أن حدثت حادثة جعلت واصل بن عطاء يخرج بفكرة الاعتزال، ويعتزل مجلس الحسن البصري، وبدأت تلك البدعة. كان واصل بن عطاء في أول أمره يجلس إلى الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، وقال أهل السنة والجماعة بإيمانهم، أي أن معهم أصل الإيمان فهم مسلمون، ولكن مرتكبها فاسق فاجر، فلا يُحكم بكفر شخص إذا كان معه أصل الإيمان، وكان ما فعله كبيرة لا تصل إلى الكفر والشرك الأكبر؛ فلمَّا حصل هذا خرج واصل عن الفريقين، وقال بالمنزلة بين المنزلتين. فـأهل السنة والجماعة يقولون: حكم مرتكب الكبيرة فاسق، لكنه باقٍ على إسلامه، لأن معه أصل الإيمان. وقالت الخوارج: مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار. فلم يفرقوا بينه وبين الكافر. والمعتزلة خرجوا بعد ذلك، وقالوا: مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين: لا هو مؤمن ولا كافر، وهذه بدعة، ما هو هذا الشيء؟! لا يوجد شيء لا مسلم ولا كافر! لا في الجنة ولا في النار! لما قال واصل بن عطاء هذه البدعة طََرَدَه الحسن من مجلسه، فاعتزل عنه. ثم تبعه عمرو بن عبيد، وعمرو بن عبيد كان مشهوراً بالزهد، وكان.. وكان... حتى قال الخليفة: كلكم يطلب الصيد إلا عمرو بن عبيد. لكن عمرو بن عبيد ذهب مع المعتزلة، فُقِدَ؛ فصار في هذه البدعة الخبيثةن وعليه تأسس مذهب المعتزلة من هذه البذور الفاسدة. سُمُّوا هم وجماعتُهم بـالمعتزلة، وأطلق عليهم أهل السنة هذا اللقب لأنهم اعتزلوا أولاً مجلس الحسن البصري رحمه الله، وهو إمام من أئمة أهل السنة. والحسن رحمه الله تعالى لا شك أنه من أهل السنة والجماعة، وأقواله في هذا موافقة لأقوال أهل السنة والجماعة في الأبواب المختلفة؛ في الأسماء والصفات، وأن الإيمان قول وعمل، والموقف من الصحابة.. وغير ذلك؛ لكن لعل الحسن رحمه الله صدرت منه كلمة في وقت من الأوقات حُسِبَت على مذهب القَدَرِية؛ لكنه بعد ذلك بيَّن الأمر وتراجع عن ذلك، ولا يمكن أن يقال أبداً: إنه من القَدَرِية، ويمكن إذا وجد أثناء القراءة في الموضوع كلاماً يعرف الإنسان خلفية الموضوع؛ فلعل عبارة صدرت من الحسن رحمه الله فُهِمَ منها أن الشر ليس بقَدَر وأن الخير هو الذي بقَدَر فقط. إن أهل السنة والجماعة يقولون: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] وخالق الخير وخالق الشر، والخير والشر كله من خلق الله تعالى وتقديره، وإذا قلت: الله خالق للخير وليس خالقاً للشر، فقد جعلت للشر خالقاً آخر، فيكون الكلام مؤدياً إلى مصيبة عظمى، ولو زعم قائله أنه يريد تنزيه الله عن الشر وأنه لم يخلق الشر لينزهه عن الشر أو عن الرضا بالشر فهذا هراء؛ لأنه جعل للشر خالقاً غير الله، وصارت القضية في تعدد الخالق في مسألة عظيمة، فالله خالق الخير وخالق الشر، لكن إذا قلنا: إن الله خلق الشر فإنه راضٍ به سبحانه وتعالى؟ أبداً، خلقه وخلق الشيطان فتنة، ابتلاء يبتلي به العباد. فليس في المسألة إشكال؛ بل هي واضحة. لكن حصل أن نُقِلت عبارة عن الحسن رحمه الله في هذه المسألة، وحصل نقاش بينه وبين بعض السلف ورجع عن ذلك. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كذب على الحسن سربان من الناس: قومٌ من القَدَرِية؛ لِيُنَفِّقُوه في الناس بـالحسن... هم مبتدعة لو قالوا للناس: مذهبنا كذا وكذا فلا أحد سيقبل منهم؛ لأنهم مبتدعة؛ فكذبوا على الحسن؛ لأن الحسن ثقة عند الناس، فإذا قيل للناس: إن الحسن يقول: كذا، فإن الناس يأخذون بقوله، فكذبوا على الحسن بأنه قال أشياء؛ لكي يُنَفِّقُوا بدعتهم بين الناس ويروجوها. وقومٌ في صدورهم شنَآن وبغض للحسن؛ فالذي افترى عليه طائفتان: طائفة تريد ترويج البدعة، وطائفة تبغض الحسن وتكرهه، وأنا نازلته غير مرة في القدر حتى خوَّفته بالسلطان، فقال: لا أعود فيه بعد اليوم، فلا أعلم أحداً يستطيع أن يعيب الحسن إلا به، وقد أدركتُ الحسن والله وما يقول -ما يقول بذلك القول- فهو قال: لا أعود بعد النقاش، ولا يمكن أن يعاب الحسن بشيء من ذلك ألبتة، وقد رجع عنه. وذكر الذهبي رحمه الله كلاماً أيضاً في الموضوع، قال: الحسن بن يسار مولى الأنصار وسيد التابعين في زمانه بـالبصرة، كان ثقة في نفسه، حجة، رأساً في العلم والعمل، عظيم القدر، وقد بدت منه هفوة في القَدَر لم يقصدها لذاتها، فتكلموا فيه، فما التُفِت إلى كلامهم، لأنه لَمَّا حوقق عليها تبرأ منها. ويكفي فخراً أن الإنسان إذا تبين له خطأ كلامه أن يرجع. وقال الذهبي رحمه الله تعالى أيضاً كلاماً في مسألة تدليس الحسن رحمه الله، وذكرنا هذا. وكذلك فإن ابن حجر رحمه الله في تهذيب التهذيب أيضاً قد أشار إلى المسألة، وأمْر الحسن رحمه الله في هذا، وأن ما نُسب إليه من القدر هو أمر قد تراجع عنه، وبعض الناس زادوا عليه أشياء، فيقول في تهذيب التهذيب: كان من أفصح أهل البصرة وأجملهم وأعبدهم وأفقههم. وروى معمر عن قتادة عن الحسن تلك الكلمة المتعلقة، قال أيوب: فناظرته في هذه الكلمة، فقال: لا أعود. وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول: [من كذَّب بالقدر فقد كفر]، والحسن كغيره من التابعين يؤمن بالقدر خيره وشره، ولئن نُقِل عنه خلاف ذلك فقد برأه العلماء من هذه التهمة سيما وقد نقل عن بعضهم أنه رجع عن ذلك. فالحمد لله صفحته بيضاء، ولو كان قال شيئاً من هذا أخطأ فيه فقد رجع.



اهتمام الحسن البصري باللغة العربية:

كان رحمه الله يهتم باللغة العربية كما أسلفنا، ويقاوم اللحن، واللحن: هو الخطأ في الكلام: جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد ! ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه؟ والصحيح أن يقول: وترك أباه وأخاه- فقال الحسن: ترك أباه وأخاه -يصحح له اللغة في السؤال- فقال له -هذا السائل وكان فيه غفلة-: فما لأباه وأخاه؟ -الآن السائل جاء بحرف الجر وأخطأ ثانية والصحيح أن يقول: فما لأبيه وأخيه!- فقال له الحسن: إنما هو فما لأبيه وأخيه؟ قال الرجل: يا أبا سعيد ! ما أشد خلافك علي! -لا بد أن تخالفني، مرة أقول لك: أباك وتقول لي: أبيك، ومرة أقول وأرجع إلى قولك، فتعيب عليَّ أيضاً- قال: أنت أشد خلافاً عليَّ، أدعوك إلى الصواب وتدعوني إلى الخطأ! كان في ذلك الوقت أناس قد دخلوا من الأعاجم في الإسلام وأولاد الإماء، فصار هناك لحن في اللغة؛ لأن هناك أناساً أمهاتهم فارسيات ومن الأعاجم فحصل لحن، واللحن كثير في الكلام، تغيرت اللغة في ألسنة كثير من الناس، فكان الحسن يقاوم ذلك. قال رجل للحسن: يا أبي سعيد ! فقال الحسن: أكَسَبْ الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا أبا سعيد ؟! يقول: هل البيع والشراء أشغلك عن تعلم اللغة، صرت لا تعرف أن تقول للمنادى المنصوب: يا أبا سعيد ؟! وقرع رجل على الحسن البصري الباب، وقال: يا أبو سعيد ! فلم يجبه، فقال: يا أبي سعيد، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل ما دام قال: يا أبو، ويا أبي، بقيت واحدة وهي الصحيحة، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل.



حكاية الحسن البصري لأشياء تاريخية:

حَكَى عن نفسه رحمه الله بعض الأشياء التاريخية: قال: كنت أدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسم في خلافة عثمان أتناول سقفها بيدي -يعني: سقوف حُجَر النبي عليه الصلاة والسلام كانت منخفضة، ما كان عليه الصلاة والسلام يسكن في قصور وسقوف مرتفعة- وأنا غلام محتلم يومئذٍ.وحدَّث مرة عن أنس بن مالك بحديث حنين الجذع، لما النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جنب جذع يسند ظهره إليه، فلما كثر الناس بنوا له المنبر وصار يصعد المنبر ويخطب عليه، ولما خطب على المنبر أول مرة عليه الصلاة والسلام، قال أنس: (فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -الخشبة التي كان يخطب عليها النبي عليه الصلاة والسلام لما فقدت الذِّكر، فقدت مكان النبي عليه الصلاة والسلام، عندها حنت حنين الولهان- فما زالت تحن وترتجف -مثل: الذي يبكي فإنه يرتعد- فما زالت تحن حتى نزل إليها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت) وهذا حديث في البخاري معروف، وهو من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام. يقول الحسن معلقاً، كان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: [يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه].



حكاية الحسن مع أنس:

وحدَّث مرة عن أنس بن مالك بحديث حنين الجذع، عندما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب إلى جنب جذع يسند ظهره إليه، فلما كثر الناس بنوا له المنبر، وصار يصعد المنبر ويخطب عليه، ولما خطب على المنبر عليه الصلاة والسلام، قال أنس: (فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -الخشبة التي كان يخطب عليها النبي عليه الصلاة والسلام لما فقدت الذِّكر، فقدت مكان النبي عليه الصلاة والسلام، عندها حنت حنين الولهان- فما زالت تحن وترتجف -مثل: الذي يبكي فإنه يرتعد- فما زالت تحن حتى نزل إليها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت) وهذا حديث في البخاري معروف، وهو من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام. يقول الحسن معلقاً، كان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: [يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه].



الحسن مع الفرزدق الشاعر:

حصلت للحسن -رحمه الله- مع الفرزدق الشاعر قصة: فإنه قد اجتمع معه في جنازة أبي رجاء العطاردي، فقال الفرزدق: يا أبا سعيد ! يقول الناس: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشرهم -يقصد أن الحسن خير الناس وأنه شر الناس- فقال الحسن: لستُ بخير الناس ولستَ بشرهم؛ لكن ما أعددت لهذا اليوم يا أبا فراس؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم انصرف. وقال الأصمعي: لما ماتت النوَّار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي -امرأة الفرزدق - وكانت قد أوصت أن يصلِّي عليها الحسن البصري، فشهد أعيان أهل البصرة مع الحسن، والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار، فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقول الناس؟ قال: يقولون: شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس؛ يعنونك، وشر الناس؛ يعنوني. فقال له: يا أبا فراس ! لستُ بخير الناس ولستَ أنت بشر الناس، ثم قال الحسن: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة. فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها، فأنشأ الفرزدق يقول:

أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد مـن القبـر التهـاباً وأضـيقا

إذا جاءني يوم القيامـة قائـدٌ عنيفٌ وسـواقٌ يسـوق الفرزدقـا

لقد خاب مـن أولاد دار مَـن مشى إلى النار مغلول القلادة أزرقا

يساق إلى نار الجحيم مسربلاً سرابيل قطـران لبـاسـاً مخـرَّقا

إذا شربوا فيها الصديد رأيتَهم يذوبون من حر الصـديـد تمـزقاً

فلما سمع الحسن بكى حتى بلَّ الثرى، ثم التزمه، وقال له: لقد كنت من أبغض الناس إلي وإنك اليوم من أحب الناس إلي. لما رأى شعره، ما صار في الهجاء والكلام المُقذع، وإنما صار في الترقيق وهذا الكلام الذي فيه وصف النار، التزمه رحمه الله وعانقه. ومن كلامه في الغيبة والمغتاب، قال أصلة بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلِن بفجوره هل له غيبة -أي: يحرم أن يُغتاب؟- قال: لا. ولا كرامة، إذا ظهر فجوره فلا غيبة له.

وقال: ثلاثة لا تحرم عليك غيبتهم: 1- المجاهر بالفسق. 2- والإمام الجائر. 3- والمبتدع.



استغلال الحسن البصري للمواقف في التربية والوعظ:

قال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد ! ألا يعجبك من محمد بن الأهتم ؟! -أي: أما تستغرب من خبر محمد بن الأهتم ؟!- قال: ما له؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفاً وهو يجود بنفسه -يحتضر- فقال لنا: انظروا إلى ذاك الصندوق فيه ثمانون ألف دينار، أو قال: درهم، لم أؤد منها زكاةً، ولم أصل منها رحماً، ولم يأكل منها محتاج. فقلنا: يا أبا عبد الله ! فلمن كنت تجمعها؟! قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الأقران، وجفوة السلطان -أخاف أن السلطان يغضب عليَّ، فلا يعطيني المقسوم، والأقران أكاثرهم بالمال، وأستعد لروعة الزمان، هذه القصة التي قيلت للحسن، فقال الحسن -معلقاً على ذلك، ولا يمكن أن يفوت مثله-: انظروا من أين أتاه شيطانه؛ خوَّفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه، ثم قال: أيها الوارث! لا تُخْدَعَنَّ -يقول الآن للوارث الذي ورث الثمانين ألفاً هذه من ذلك الرجل الشحيح البخيل المقصر- كما خُدِع صُوَيْحِبُك بالأمس، جاءك هذا المال، لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال الحسن: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال، ثم يموت ويدعه لغيره، فيرزقه الله فيه -أي: في الوارث- الصلاح والإنفاق -في وجوه البر- فيجد -البخيل، المانع الحقوق- ماله في ميزان غيره فيتحسر -أي: يوم القيامة. وقال الحسن: [قدم علينا بشر بن مروان، أخو الخليفة، وأمير المصريين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يوماً، ثم طعن في قدميه فمات، فأخرجناه إلى قبره -يقول الآن قصة فيها موعظة، انطباعه عن هذا المشهد ينقله إلينا- يقول: فلما صرنا إلى الجبَّان -المقبرة- إذ نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم إلى قبره -هذا جمع عظيم مع هذا الرجل المشهور، وذاك واحد مسكين معه أربعة سودان يحملونه إلى قبره، فوضعنا السرير عن الجنازة فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه -نحن في مكان وهم في مكان آخر في المقبرة- ثم حملنا بشر بن مروان إلى قبره، وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودَفَنَّا بشراً، ودفنوا صاحبهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفتُ التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئاً قط كان أعجب منه. أي: بعدما تولينا كلنا من المقبرة نظرتُ ورائي فما عرفت أياً من القبرين الذي قبر فيه بشر بن مروان، فاعتبرها موعظة، أي: هذه مظاهر، لكن في النهاية صاروا في القبرين سواء، قبران متشابهان، كلاهما في القبر. وقال رجل للحسن: إني أكره الموت، قال الحسن: [ذاك أنك ادخرت مالك، ولو قدَّمْتَه لسَرَّك أن تلحق به] لو أنفقتَه في سبيل الله لسَرَّك أن تلحق به. ومن تعليمه لرجل في المباركة بالمولود: عن عوف قال: قال رجل في مجلس الحسن: لِيَهْنكَ الفارس، قال له الحسن: فلعله حامِر -ما يدريك أنه فارس! ربما يكون حَمَّاراً، يعني: في البلادة والغباء وعدم التدبير- إذا وهب الله لرجل ولداً فقل: شكرتَ الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ أشده، ورُزقت بره].



مقاومة الحسن البصري للشرك بأنواعه:

كان ممن يقاوم الشرك الأصغر والأكبر بأنواعه، حتى قال رجل من بني مجاشع: جاء الحسن في دم كان فينا، فخطبهم فأجابه رجـل، فقال: قد تركتُ ذلك لله ولوجوهكم. هناك قضية دماء، الحسن أراد أن يصلح فيها، فيجعل أهل المقتول يتنازلون، فجاء رجل من أهل المقتول، قال: قد تركت ذلك لله ولوجوهكم -يعني: من أجل الله ومن أجلكم- فقال الحسن: لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم، وآجرك الله. أثابك الله على تنازلك، ولكن لا تسوِّنا بالله، تقول: تركتها لله ولكم، لا يصلح أن تسوي بيننا وبين الله، قل: لله، ثم لكم. وهذا نظائره كثيرة، مثل أن تقول: لولا الله ثم فلان، لا تقول: لولا الله وفلان، فهي شرك، بل لولا الله ثم فلان، لا تجعل الخالق والمخلوق بمنزلة واحدة، وتعطف هذا على هذا.



وفاة الحسن البصري رحمه الله:

وبالنسبة لوفاته رحمه الله تعالى، فإنه لما حضرته الوفاة جعل يسترجع -يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- فقام إليه ابنه، وقال: يا أبتي! قد غممتنا، فهل رأيت شيئاً؟! قال: [هي نفسي، لَمْ أُصَبْ بمثلها]. ويُروى أنه أغمي عليه ثم أفاق إفاقة فقال: [لقد نبَّهتموني من جنات وعيون، ومقام كريم]. وقال رجل قبل موت الحسن لـابن سيرين -وابن سيرين كان مشهوراً بتعبير الرؤى والأحلام-: رأيتُ كأن طائراً أخذ أحسن حصاة بالمسجد؟ فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن. أي: هو أحسن من عندنا في المسجد، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن، ووقع تفسير وتأويل الرؤيا. وكانت وفاة الحسن رضي الله عنه ليلة الجمعة، في أول رجب سنة (110هـ). وقد عاش -كما قال ابنه- نحواً من 088) سنة، عمراً مباركاً في طاعة الله، وكانت جنازته مشهودة، وصُلِّي عليه عُقيب صلاة الجمعة بـالبصرة، فشيَّعه الخلق وازدحموا عليه. قال حُميد الطويل: توفي الحسن عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة، ففرغنا من أمره -أي: جهزناه- وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه. وهذه نهاية هذه السلسلة في هذا الوقت، ولعلنا نعود إليها مجدداً إن شاء الله تعالى. ونسأل الله التوفيق والإخلاص. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

Marwa Mahmoud
02-15-2009, 05:39 PM
شكرا ليك على الموضوع والمعلومات الجميلة دى
عن أممنا العظيم
بس ياريت كنت جزئتة لأنة طويل أوى
بس بجد تسلم أيدك

خالد أبوسعده
02-15-2009, 09:46 PM
موضوع جميل جداجدا يا اسلام
بجد انت مواضيعك جميله اوى و مفيده جدا لاننا بجد محتاجين نعرف تاريخنا
شكرا اسلام

samomran
02-16-2009, 01:01 AM
شكرا ليكم يا جماعه

و ردا على الانسه مرمر

انا لو جزئت الحكايه
ماكانتش حتنفع
لانها قصه كامله مكمله
و احنا لازم نستفيد منها

و تقبلى راى