لاشك انك تعرف أسماء معظم المضايق البحرية إن لم تكن تعرفها كلها. وانك حتما سمعت بمضيق هرمز, وباب المندب, والبوسفور, والدردنيل, ومضيق جبل طارق.. وغيرها. لكني متأكد تماما من انك لم تسمع من قبل بمضيق الشيطان, والعياذ بالله. على الرغم من أهميته, ووقوعه في قلب شط العرب. وعلى الرغم من غرابة هذا الاسم المستهجن. الذي يبعث على الدهشة, ويشد الانتباه, ويثير التساؤلات. والأغرب من ذلك أن جميع المقررات المدرسية المعنية بدراسة جغرافية العراق لم تتطرق اليه أبدا..
وأكاد اجزم أن ليس هنالك أي مرجع جغرافي عراقي, أو عربي, أو عالمي, تناول بالشرح المفصل هذا المضيق, سوى كتاب واحد, هو كتاب المرشد (Admiralty Pilot Book) الصادر عن قسم الخرائط الهيدروغرافية في الأدميرالية البحرية البريطانية. وحتى أبناء المناطق القريبة منه. والمطلة عليه لا يعلمون بهذه التسمية الغريبة, على الرغم من مضي قرون عليها. وليس هنالك من يعرف مسالك هذا المضيق ويتعامل معها يوميا سوى المرشدين البحريين العراقيين والعاملين على السفن التابعة للموانئ العراقية. ويحق لك الآن أن تستفسر عن موقع المضيق وملامحه العامة. وعن سبب التسمية الغريبة..
ينحصر مضيق الشيطان بين الطرف الجنوبي لجزيرة (الشمشومية) والجزء الشمالي من جزيرة (أم الرصاص). ويقع إلى الجنوب من ميناء (أبو الفلوس) بمسافة أربعة أميال بحرية تقريبا. وهو أضيق الممرات الملاحية في شط العرب. وأضيق المضايق العالمية على وجه العموم. ويبلغ عرضه بين الضفتين حوالي 150 مترا فقط. ويقع برمته في المياه العراقية..
أحياناً، يحلو للمرء أن يعرف سبب التسميات، وهو أيضاً فضول يبعث المتعة في اكتشاف شيء. ناهيك عن الفوائد المعرفية العامة. فلكل مكان أسم، ولكل اسم معنى، والمعنى أن يدلّك هذا الاسم على ماهيته.. وكثير من الأسماء أطلقت لأسباب، والأسباب مختلفة.. وقد تختلف الآراء في هذا الاسم أو ذاك، وكذا الحال بالنسبة لتسمية مضيق الشيطان التي تعزى إلى الظاهرة الغريبة التي ينفرد بها هذا المضيق من بين كل المضايق..
ففي هذا المضيق تتعرض السفن التجارية الكبيرة (العابرة للمحيطات), إثناء عبورها لقوة خفية تؤثر على بوصلتها المغناطيسية. فتضطرب وتتحرك بشكل عشوائي. مما يدل على وجود قوة مغناطيسية أو قوة جذب شديدة وغريبة. حيث تنحرف إبرة البوصلة بزاوية كبيرة. وتنجذب نحو الضفة الشرقية لشط العرب. ولما كانت هذه السفن الكبيرة تعتمد فيما مضى على الاتجاهات التي تحددها البوصلة المغناطيسية وترسم مسارها. فأن هذا الانحراف الفجائي في هذه المنطقة الضيقة يؤدي حتما إلى جنوحها عن خط سيرها, وارتطامها بالشاطئ القريب, وبخاصة إثناء الملاحة الليلية. وبالتالي إصابتها بأضرار بليغة وخارجة عن إرادتها.
ولم يكن ربابنة السفن على علم مسبق بهذه الظاهرة الغريبة. لكنهم لاحظوا تكرار جنوح السفن عند مرورها بهذا المقطع بسبب تعطل بوصلاتها المغناطيسية عن العمل. ولم يتوصل احد منذ ذلك الحين إلى أي تفسير منطقي يوضح مصدر القوة الخفية المؤثرة على عمل البوصلات المغناطيسية. لكنهم كانوا يعتقدون أن هذه القوة ما هي إلا قوة شيطانية تعيق حركة السفن وتدفعها إلى الجنوح على الشاطئ. وهكذا أصبح المضيق يحمل اسم الشيطان الرجيم. وسمي باسمه (مضيق الشيطان). وما زالت الخرائط البحرية العالمية تحمل على صفحاتها تحذيرا ملاحيا للسفن. يوجب عليها توخي الحذر من الانحراف البوصلي عند اجتيازها لمضيق الشيطان..
وكانت سلطة الموانئ العراقية سباقة إلى وضع الضوابط الملاحية الملزمة لكل السفن المارة بمضيق الشيطان. فحددت المرور لسفينة واحدة فقط. ومنعت تلاقي السفن وتسابقها بين ضفتي المضيق. وجعلت الأولوية في الاجتياز للسفينة المتحركة مع التيار..
أما الآن فلم تعد السفن المارة بالمضيق تتأثر بهذه الظاهرة. بسبب اعتمادها في مسيرها على البوصلات الجيروسكوبية. والأجهزة الملاحية الحديثة المرتبطة بالأقمار الصناعية GPS.
لكن اسم المضيق ظل يحمل الاسم القديم. ويمكنك أن تراه مثبتا على جميع الخرائط الملاحية العالمية لحد الآن..
وارى أن اسم مضيق الشيطان له تفسير آخر فرضته الظروف السياسية القاهرة التي واجهها العراق منذ القرون الغابرة وحتى الآن. فقد مرت عبر هذا المضيق الصغير كل شياطين الأرض وعفاريت البحار, بسفنها وأساطيلها الشريرة التي جاءت من أقاصي المحيطات, لتغزو البصرة وتنهب ثرواتها. ابتداء بسفن القراصنة الهولنديين بقيادة البارون (هاوزن). وانتهاء بالسفن والزوارق الحربية الأنكلوأمريكية..
وتوجد حاليا قوة صغيرة من تشكيلات آمرية خفر السواحل والمياه الداخلية. مرابطة على الدوام في الطرف الشمالي لجزيرة أم الرصاص , ومكلفة بحراسة هذا المضيق, وتفتيش السفن المارة به. ومن المناسب أن نذكر هنا أن تشكيلات خفر السواحل العراقية في أمس الحاجة إلى توفير الدعم المطلق. لما تقوم به من دور متميز في بسط السيادة العراقية على مياه شط العرب ومنافذه..
وختاما نقول أن مضيق الشيطان سيبقى لغزا من الغاز شط العرب. احتار الملاحون في حله منذ مئات السنين. وهناك حكايات كثيرة تحيطه بهالة من الدهشة والغموض. تنتظر من يتصدى لها, ويكشف لنا عن أسرارها
المصدر شبكة النبأ المعلوماتية
