في رسالة عابرة أرسلتها لي الأخت الغالية توبة تسألني عن الصمت العارم علي رغم وجودي فقلت ...
قلت لنفسي وقالت لي ؟ يا توبه
قلت لنفسي : ويحك يا نفس ! مالي أتاحمل عليك , فإذا وفيت بما في وسعك أردت منك ما فوقه وكلفتك أن تسعي . فلا أزال أعنتك من بعد كمال فيما هو أكمل منه , وبعد الحسن فيما هو الأحسن , وما أنفك أجهدك كلما راجعك النشاط , وأضنيك كلما ثابت القوة , فإن تكن لك هموم أنا أكبرها , وإذا ساورتك الأحزان فأكثرها مما أجلب عليك .
أنت يا نفس سائرة على النهج , وأنا أعتسف بك أريد الطيران لا السير , وأبتغي عمل الأعمار في عمر , وأستحثك من كل هجعة راحة يفجر تعب جديد .
وقالت لي النفس : أما أنا فإني معكم دأبا كالحبيبة الوفية لمن تحبه : ترى خضوعها أحيانا هو أحسن المقاومة , وأما أنت فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب فكيف تريني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم ؟
ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك , بل ما توجده بنفسك , فإن لم تزد شيئا على الدنيا كنت أنت زائدا على الدنيا , وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها . وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتا صغيرا , ودنيا الآخر كالقرية الململمة , ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة , أما دنيا العظيم فقارة بأكملها , وإذا انفرد أمتد في الدنيا فكان هو الدنيا .
والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة , فما عانيته اليوم حركة من جسمك , ألفيته غدا في جسمك قوة من قوى اللحم والدم . وساعة الراحة بعد أيام من التعب هي في لذاتها كأيام من الراحة بعد تعب ساعة .
اتعب تعبك يا صاحبي .
وأنت إنماتكد لتسمو بروحك إلى همومالحقيقة العالية , وتسمو بجسمك إلى مشقات الروح العظيمة , فذلك يا صاحبي ليس تعبا في حفر الأرض , ولكنه تعب في حفر الكنز اتعب يا صاحبي تعبك فإن عناء الروح هو عمرها فأعمالك عمرك .
قلت لنفسي : فقد مللت أشياء وتبرمت بأشياء . وإن عمل التغيير في الدنيا لهو هدم لها كلما بنيت , ثم بناؤها كلما هدمت , فما من شئ إلا وهو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معا , وكم من صديق خلطته بالنفس يذهب فيه ذهاب الماء في الماء , حتى إذا مر يوم , أو عهد كاليوم , رأيت في مكانه إنسانا خياليا كمسألة من مسائل النحاة فيه قولان ...! فهو يحتمل في وقت واحد تأويل ما أظن به من خير , وما أتوقع به من شر ! وكم اسم جميل إذا هجس في خاطري قلت : آه, هذا الذي كان ....!
وقالت لي النفس : وأنت ما شأنك بالناس والعالم ؟ يا سارة ليس لمصباح الطريق أن يقول " إن الطريق مظلم "
إنما قوله إذا أراد كلاما أن يقول : " هأنذا مضئ " .
اعمل يا صاحبي عملك , فإذا رأيت في العاملين من يضجر فلا تضجر مثله , بل خذ اطمئنانه إلى اطمئنانك , ودعه يخلو وتضاعف أنت .
وقالت لي النفس : إن من فاق الناس بنفسه الكبيرة كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة , إن الشئ النهائي لا يوجد إلا في الصغائر والشر , أما الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى , فهذه حقائق أزلية وجدت لنفسها : كالهواء يتنفسه كل الأحياء على هذه الأرض ولا ينتهي , ولا يعرف أين ينتهي .
اجهد جهدك يا صاحبي , فما هو قفصك الفكري ذلك الشعاع الذي يحبسك , ولكنه صقل النفس لتتلقى الأنوار , ولابد للمرآة من ظاهر الحجر لتكون به مرآة .
قلت لنفسي : فما أشد مضضا أعانيه ! إن أمري ليذهب فرطا أكلما ابتغيت من الحياة مرحا أطرب له وأهتز , جائتني الحياة بفكرة أستكد فيها وأدأب ؟ أهذا السرور الذي لا يزال يقع بين الناس هو الذي لا يكاد يقع لي ؟ وهل أنا شجرة في مغرسها : تنمو صاعدة بفروعها , ونازلة بجذورها , غير أنها لا تبرح مكانها ؟
وقالت لي النفس : إن فأس الحطاب لا تكون من أداة الطبيب , فخذ لكل شئ أداته , وكن جاهلا أحيانا , ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة , لهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق المرهف .
اجهل جهلك يا صاحبي في هذه الشهوات الخسيسة , فإنها العلم الخبيث الذي يفسد الروح , واعرف كيف تقول لروحك الطفلة في ملائكيتها حين تساورك الشهوات : هذا ليس لي , هذا لا ينبغي لي .
اجهل جهلك يا صاحبي , ففي كل حسن غزل بشرط ألا تكون العاشق الطامع , وإلا أصبت في كل حسن هما ومشغلة .
قلت لنفسي : إلى الآن لم أقل لك ذلك المعنى الذي كتمته عنك .
وقالت لي النفس : وإلى الآن لم أقل لك إلا جواب ذلك الذي كتمته عني .....
من وحي القلم