وتسلم وظيفة جديدة ،في مدينة بعيدة ، وانقطعت أخباره عنها .
ولكنها مع كل صباح ،كانت تتسلم باقة ورد ، ومعها بطاقة صغيرة بلا توقيع :
كان قلبي شاردا حتى وجد عينيك الصغيرتين ،الكافيتين جدا لاحتوائه الى ابد الدهر .. يا لحزنه كيف ضعت منه !
أحبك ..لعلك تعرفين عذاب المحب الوحيد .
مازلت أشعر أنك ملكي حتى بعد فراقك .. بقيت لي مسئوليتي نحوك ، وضاعت سعادتي بك .
أصبحت كلماتي التي اكتبها لك ،هي نبضات حياتي ..الوحيدة .
إنني عنيد مع كل البشر ..إلا أنت ،لأنك جزء مني .
لقد تعودت على أشياء كثيرة : أن أكون حزينا .. ان أكون وحيدا ..أن أحبك دائما ..وأن ترفضي حبي
انك تحاكمين عمرا كاملا جراء جريمة ارتكتبها لحظة حماقة واحدة فيه، لن تتكرر أبدا .
من شدة حزني ،قررت أن انساك فوجدت نفسي اكتب لك ذلك بسرعة ،قبل أن انساه!
لا تخلو الدنيا ابدا من الآلام ..فهل سيكون ألمك مع غيري ، أجمل من ألمك معي ؟
كلما فكرت في الانتحار أحجمت سريعا ، لأن ذلك سيحرمني من آخر أمل في أن نلتقي بالجنة.
أتدرين لماذا لا أحدثك عن جمالك وأنا الوحيد الذي امتلكته في يوم ما ؟.. سأقول لك غدا !
لا أحدثك عن جمالك ،لأن هذا من المهالك ،التي اذا أنزلق المرء لم ينته منها ابدا .
عودي لي وامتلكيني ..هأنذا أمنحك الفرصة الملائمة للانتقام مني !
سيكون القمر بدرا الليلة .. انظري اليه وتذكريني وسأعرف ..فقد اتفقت مع( ناسا ) أن تلتقط أفكارك ،بأحدث أجهزة التجسس الفضائي لديها !
تذكرت أنك قلت يوما :"أحبك " فهرعت للطبيب في قلق ، خشية الوقوع في الهلاوس ،فإن موقفك الحالي لا يدل الا على عداء ازلي !
أول ما سأتمناه لو عدت لي ، هو أن تنجبي طفلا ، يربط مصيري بمصيرك الى الأبد .. شئنا أم أبينا .
هناك من يتمنون الا تعودي لي ..منهم على الأقل ،بائع الزهور التي تسعد بك الآن !
لم أعد أجد المزيد من الكلمات .لهذا طبعت بشفتي قبلة رقيقة على هذه البطاقة ، يائسا أن تصل الى شفتيك .
عندما استلمت بطاقته الأخيرة ، مستها بشفتيها طويلا ،وعيناها مغرورقتان بالدموع .
صارتْ مُعتادةً أن تتلقّى زهورَه وكلماتِه، كلَّ يومٍ في الثامنةِ صباحا.
بل إنّها صارتْ تُعانى الأرقَ ليلا، تَلهّفًا لمطلعِ الصبح، حيثُ تختطفُ الباقةَ من العاملِ الذي يُسلّمُها، وتقرأُ الكلماتِ في شوق، ثم تحتضنُ الزهورَ وتغفو في حِضنِها.
كلُّ هذا، دونَ أن تُصارحَ نفسَها برغبتِها الجامحةِ في العودةِ إليه!
*****
ثمّ في يومٍ ما، انقطعَتْ باقاتُه وبطاقاتُه فجأة.
ولمدةِ أسبوعٍ صارتْ حياتُها خاوية، والقلقُ يأكلُ نفسَها، وتساؤلاتٌ مجنونةٌ تَنخرُ عقلَها.
لماذا كَفَّ عن إرسالِ الورد؟.. هل يَئِسَ منّى؟.. هل تعلّقَ بأخرى وسيتزوّجُها؟.. هل قسوْتُ عليه أكثرَ مِنَ اللازم؟
يا إلهي!.. لو أعرفُ حتى أينَ هوَ الآن، أو ما هو رقمُ هاتفِه في عملِه الجديد.
*****
وكانِ أسبوعًا مريعا.
قلقٌ وأرق، وشرود، وتطلّع دائمٌ إلى حُلمٍ يبهتُ شيئًا فشيئا.
ندمٌ ضارٍ وحزنٌ مُستطير.
وكلّما رنّ جرسُ البابِ قفزَتْ إليه، علّها زهورُه وكلماتُه.. بلا جدوى.
*****
كانت آخرُ زهرةٍ أرسلَها تُحْتَضَر، وقد فشِلَتْ كلُّ المحاليلِ في منحِها النضارةَ أطولَ مِن ذلك.
وبينما هي تتأمّلُها دامعةً، رنَّ جرسُ الباب، فتثاقلَتْ أن تقومَ إليه من فرطِ يأسِها.
ألقَتْ عليها والدتُها نظرةً مُشفقة، قبلَ أن تتّجهَ لتفتحَ الباب.
وتهلّلتِ الوالدةُ حينما وجدَتْ مَن يُسلّمُها باقةَ وردٍ وصاحتْ في فرحة:
-هل أرسلَ الزهورَ مرّةً أخرى؟
قفزَتْ من مقعدِها، وكالبرقِ كانتْ عندَ الباب، تختطفُ الباقةَ من يدِ حاملِها، وتنتزعُ البطاقةَ في شوقٍ هاتفةً:
-هل هي منه؟
وقرأَتْ على البطاقة:
لعلكِ تتساءلينَ عن سرِّ انقطاعِ زهوري.. كان ذلكَ حتّى أتفرغَ للانتهاءِ من أعمالي وأقدمَ بنفسي.
خفقَتْ جوانحُها في سعادةٍ وتمتمتْ:
-إنّه سيأتي.. سيأتي أخيرا.
والتفتَتْ للعاملِ قائلةً:
-ثانيةً واحدة.. إنّكَ تستحقُّ مكافأةً سخيّة.
قال في هدوء:
-إنّني متشوّقٌ لنيلِها.
تسمّرَتْ في مكانِها، ونَظرَتْ إليه بدهشة، فأزاحَ القبّعةَ التي أرخاها لتُخفِيَ ملامحَه، فاتضحَ أنّه هو.. ابتسمَ قائلا:
- مفاجأة.. أليسَ كذلك؟
احمرَّ وجهُها، وعقدَتِ الدهشةُ لسانَها لحظة، قبلَ أنْ تقولَ في دلالٍ مُتصنّعةً الغضب:
-مَن منحَكَ الحقَّ لتدبّرَ لي هذه الخُدعة؟
-حبّي لكَ يمنحُني كلَّ الحقوق.
والتفتَ إلى والدتِها قائلا:
-حماتي: هل تُوافقينَ على أن تزوّجيني هذه الطفلةَ الشّقيّةَ الجميلة؟
قالتْ في دلالٍ جميل:
-اسألْني أنا أوّلا.
-لا.. لقد خرجِ الأمرُ مِن يدِك.. ثمَّ أتُنكرينَ أنّكِ كِدْتِ تُجنّينَ مِن شِدّةِ لهفتِكِ عليّ؟
- [في دلال]: يا لكَ مِن مغرور!
-شيءٌ طبيعيٌّ ما دُمتِ أنتِ ملكي.
-إنّني لمْ أَعُدْ ملكَكَ.
-لن يستمرَّ ذلكِ طويلا.
أطرقَتْ ووجهُها تصبغُه حمرةٌ وسعادة.
وأطلقَتْ والدتُها زغرودةً عالية.
*****
أرادَ أن يمنحَها العصمةَ فرفضَتْ، لأنَّ أجملَ ما كانت تتمنّاه، هو أن تضعَ مصيرَها كلَّه بين يديه.
وفى هذه المرةِ كانا أسعد.
لم تنتهِ الخلافاتُ بينَهما، ولكنّهما تعلّما، حتّى عندَما يختلفان، أن يختلفا في حب.
وهى تعلمّتْ شيئًا ظريفا: حينما يغضبُ منها لسببٍ ما، تسرعُ إلى العلبةِ المخمليّةِ التي تحتفظُ فيها ببطاقاتِه، فتختارُ واحدةً، وتذهبُ بها إليه، وتضعُها تحتَ عينيه في صمت.
ودائما لا يملِكُ إلا أن يبتسمَ ويحتوِيَها في ذراعيه في حنان.
أمّا هو، فحينما كانتْ تغضبُ منه، كان يكتبُ لها بطاقةَ اعتذارٍ جديدة، تُضيفُها لرصيدِ حبّهما.
*****
منقول