تلوث الهواء من منظور جغرافى
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يتم الانتباه الى تدني نوعية الهواء الا في العقود القليلة الماضية رغم أن تلوث الهواء ظاهرة موجودة منذ أزمنة سحيقة جراء احتراق الغابات وحدوث البراكين ، ونتيجة الاستعمالات المنزلية للخشب و الفحم في التدفئة و الطبخ ، وان حدث تلوث فانه يعد مشكلة محلية مؤقتة . وبتراكم انتاج الفضلات وتدفقات الدخان والملوثات الأخرى الى الجو ، فقد اتسعت تأثيراتها لتتجاوز الحدود المحلية وتبلورت كحالة بيئية غير محلية مسببة مشاكل بين المستقرات البشرية المتجاورة مما تطلب اهتماما ومعالجة و سيطرة . ولم ينظر الى الهواء النقي كأحد عناصر الرفاه الاجتماعي الا مؤخرا .
http://arabic.sviva.gov.il/images/carmel_olp.jpg
ومنذ العصور الوسطى ، أستدل على أثر الهواء السام على صحة الانسان و علاقته بانتشار بعض الامراض . فقد ربط خطأ بين مرض الملاريا و الروائح المنبعثة من المستنقعات وليس البعوض الذي يتكاثر فيها . وقد نظر الى المباني و الموروث الحضاري و تغير الوانه كمؤشر على أثر الدخان . وفي الحقيقة ، ان تراكم المعرفة عن ممارسات التدفئة المنزلية و العمليات التعدينية و الصناعية البدائية في القرون الماضية قادت الى الاستدلال على ان تلوث الهواء لم يميز كمشكلة كبيرة تؤثر على صحة الانسان وحياته .
لقد كان الخشب المصدر الرئيسي للوقود سابقا ، ونتيجة الاعتماد عليه فقد تطورت الصناعات ببطء و متحددة بوجود الغابات في الجوار . وكان اكتشاف الطاقة الكامنة في الفحم واحلاله كوقود بدلآ من الفحم تدريجيا (بعد عودة ماركوبولو من رحلته الى آسيا) دافعا ليكتشف الاوربيون مكامن الارض التي يعيشون عليها ، وبالتالي سببا لتطور الصناعة فيها .
http://www.shjmun.gov.ae/v2/arabic/e.../Poster-5B.gif
ان وجود الكبريت ضمن مكونات الفحم قد عزز الشكوك في الصلة بين تلوث الهواء وانتشار بعض الأمراض . نتيجة ذلك ، فقد جرت معارضات سياسية حادة في كل من بريطانيا و المانيا حول استيراد الفحم و تصديره . ولكن ذهبت كل هذه أدراج الرياح جراء تعاظم الطلب على الفحم للاستعمالات المنزلية و لتوليد الطاقة في المصانع و المعامل . لقد كان الفحم سببا مباشرا لقيام الثورة الصناعية ، وما رافقها من دخان رمز الازدهار الاقتصادي و السياسي لأوربا على حساب بلدان العالم التي استعمرتها واستعبدت شعوبها ونهبت خيراتها .
ومنذ بداية القرن الرابع عشر وحتى بداية القرن العشرين ، اهتم بتلوث الهواء نتيجة الدخان و الغازات الاخرى المنبعثة عن حرق الفحم وما يسببه من مشكلة للمجتمع المحلي فقد طورت تقنيات السيطرة على الدخان و وضعت برامج تنفيذية للحفاظ على صحة المجتمع ، ولم تتخذ اجراءات حقيقية للسيطرة على التلوث الا بعد حدوث كوارث وارتفاع نسب الوفيات في المدن الكبرى .
لقد وقعت حوادث محلية عديدة تؤكد وجود تركزات عالية نسبيا لملوثات غير الدخان ذات طبيعة سمية ، فالعديد من المواد المستخدمة في الصناعة و لأغراض تجارية لها أضرارها . ومن الحوادث الموثقة حادثة Poza Rica قرب مدينة نيومكسيكو حيث تأثر العديد من الأشخاص ، وتوفي البعض ، نتيجة التعرض الى سلفات الهايدروجين . وتبعث مداخن المصانع المنتجة للمواد المعدنية أدخنة Fumes وضباب حامضي Acid mist يلوث الجو . كذلك الفلوريدات Flurides المتسربة من اعمال الالمنيوم وغيرها من المصادر الصناعية والتي تسبب اضرارا للماشية في المراعي و المزارع . ولا ننس الروائح الكريهة المنبعثة من بعض الصناعات وما تسببه من رشح و امراض للجهاز التنفسي .
ان حرق الزيت Oil و الغاز الطبيعي قد قلل من دخان الفحم و اضراره بدرجة كبيرة . وتتوافق خارطة تلوث الهواء حاليا مع توزيع الوقود المعتمد و مع شبكة النقل ، اضافة الى عوامل محلية اخرى . ففي الولايات المتحدة ، على سبيل المثال لا الحصر ، فان مناطق واسعة من الجنوب الغربي تستهلك كميات كبيرة من الفحم لذا ترتفع فيها نسب التلوث قياسا بالساحل الشرقي و الجنوب الشرقي و مناطق الوسط الغربي حيث المجمعات الصناعية الكبيرة ولكن الوقود المستخدم فيها مكون من خليط من الفحم و الزيت و الغاز الطبيعي .
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، وفي اجزاء عديدة من العالم ، فان استخدام مشتقات البترول في شكل زيت غاز او زيت قد تزايد واصبح الوقود الوحيد المستخدم في وسائط النقل . كذلك في الصناعة التي تحولت الى الوقود الجديد لما فيه من خصائص ايجابية . وقد اشير الى اثر وسائط النقل على تلوث الهواء منذ عام 1915 . وفي عام 1945 أشير لأول مرة الى أثر منتجات البترول على البيئة .
ان معظم الملوثات المنبعثة من منتجات البترول و عملياته فيها شيء من السمية ، او تؤدي الى الترشيح واضرارا صحية ، وحتى بتراكيز متدنية قياسا بمصادر الطاقة السابقة . وتصاحبها تفاعلات كيميائية ضوئية تؤثر على النظام الحيوي حتى في التراكيز القليلة جدا . بعبارة أخرى ، مصادر الطاقة الجديدة أقل تلوثا و لكنها أكثر خطرا .
ان ما يستهلكه النظام الحيوي من مصادر الطاقة يحدد نوعية فضلاته و خصائصها . كذلك الأمر مع الوقود المستخدم فانه يحدد نوع و كمية الفضلات الناتجة عن الاحتراق و بالتالي خصائصها . فجو المدينة خاضع لتأثيرات نمط الصناعة المحلية ، وما تفرزه من فضلات و روائح . ولكن المنتج عن تحويل الطاقة يشكل ((قلب)) مشكلة تلوث البيئة . فالتبدل الممكن حصوله في نوعية تلوث الهواء يحدث فقط عند التحول الى مصادر الطاقة البديلة . لذا ، يمكن التكهن بالتغيرات المحتملة عند التحول الى اعتماد الطاقة النووية أو الطاقة الشمسية ، ولكن يستوجب السيطرة الكاملة على الاشعاعات الناتجة و مخاطر التعرض لها .
فالتلوث ناتج عن فضلات العمليات المختلفة ((احتراق ، تعدين ، تصنيع ، استهلاك مواد)) وطرحها الى البيئة المجاورة دون حساب تأثيراتها على المجتمع . لهذا السبب ، لا يخلو الحديث عن التلوث من العواطف لأنه يتضمن ، علنا أو ضمنا ، وجود جهة ما تضيف الى البيئة التي نعيش فيها شيئا مؤذيا ، غير سار او سام . والتلوث ليس حالة مطلقة من المخاوف تصيب الجميع ، بل نسبية لأشخاص معينين أو مجاميع اجتماعية محددة . ويستخدم مصطلح "تلوث الهواء" ليعني ارتفاع نسب الغازات والابخرة او المواد الصلبة العالقة في الجو نتيجة اهمال الانسان وبسبب نشاطاته التي تطرح الفضلات مؤدية الى تدني مستوى البيئة . والهواء غير الملوث هو ليس مرادفا للهواء النقي Pure air . فالهواء يحتوي ، اعتياديا ، على مواد من الاتربة و الغبار وبتراكيز قليلة ، لذا فهو ليس بنقي . وتكون السيطرة على تلوث الهواء ضرورية عندما تصل تراكيز هذه المواد و الغازات الى درجة تكون مؤذية لصحة الانسان وتشكل خطرا على حياته اما مباشرة أو بصورة غير مباشرة ((من خلال تأثيرها على البيئة الحياتية والاضرار بالنباتات التي يحتاجها المجتمع البشري)) .
http://www.aaramnews.com/News_Images..._121224_PM.jpg
قدم سايمونز مخططا يوضح العلاقة بين الفضلات و التلوث ، مصنفا الفضلات الى فئتين : الأولى ، ناتجة عن المواد و معالجتها مثل الاطعمة ؛ الغابات ؛ الوقود ، ومنتوجات كيميائية لا عضوية ومواد معدنية اولية فلزية ولا فلزية ، ومواد تركيبية مثل الصخور ؛ الاسمنت و الزجاج . ينتج عن معالجة هذه المواد ذرات صلبة ؛ فضلات لا عضوية ؛ فضلات عضوية ؛ هايدروكابونية ؛ فقدان مواد كيميائية اثناء المعالجة و انبعاث غازات .
تنتج الفئة الثانية من الفضلات عن تحوير الطاقة ، ويؤكد سايمونز على ان للصناعة دور رئيسي (32%) ثم قطاع النقل (24%) والاستعمالات المنزلية و التجارية (21%) و انتاج الطاقة الحرارية (20%) . تفرز هذه التحويرات فضلات هايدروكاربونية ؛ اكاسيد النتروجين ؛ أول أوكسيد الكاربون ؛ ثاني أوكسيد الكبريت ؛ ذرات صلبة ؛ فضلات مشعة ؛ ضوضاء و حرارة .
وعن الفئتين مع بعض تنتج سلع و منتجات كيميائية ؛ غذائية ؛ ورق و انسجة ؛ مواد تركيبية تؤدي بدورها الى تصريف فضلات اخرى الى البيئة على شكل مواد صلبة ؛ سائلة ؛ و طاقة (Simmons 1974 ) . بعبارة اخرى ، كل نشاط بشري ينتج عنه فضلات قد تؤذي البيئة مالم يتم تصريفها و معالجتها بطريقة مدروسة . أنظر الشكلين رقم (1) و (2)
الخلاصة ، أن تلوث الهواء ناتج عن نشاط الانسان ، ويتأثر بالعوامل الطبيعية والاجتماعية العاملة في البيئة . لذا يدرس موضوع تلوث الهواء ضمن ميدان الجغرافيا البشرية . الأهم من هذا ، ان استيعاب مشكلة تلوث الهواء يتطلب تحليلآ لشبكة العلاقات الممتدة عبر المعطيات البيئية ، الطبيعية والاجتماعية .