المنظور العضوي لمواد دراسة الجغرافيا
Organic View to Geography Curriculum
أ.د. مضر خليل عمر
وحدة الأبحاث المكانية – جامعة ديالى
المقدمة
يبدو أن الجغرافيا أكثر العلوم اثارة للجدل والنقاش ، و ليس هذا بالجديد . فقد كان النقاش محتدما في القرون الماضية في اوربا وانتهى بحصول الجغرافيا على مقعد للتدريس في الجامعات ، وهذا شرف كبير لا تحضى به الا العلوم التي يعتد بها و بالباحثين في موضوعاتها. واستمر الجدال ولكنه اثير مؤخرا بصيغة جديدة يلغي دور الجغرافيا في خدمة المجتمع
و يطالب بالغاء كرسييها من الجامعات في عصر تداعت المسافات وتلاشت ، عصر العولمة والقرية العالمية التي اثمرتها تقنيات الاتصالات و المعلومات .
ولرب سائل يسأل : لماذا الجغرافيا دون غيرها من حقول المعرفة و العلوم تثار حولها هذه الزوبعة من التشكيك في علميتها و اهميتها ؟ لماذا لا يحدث تشكيك في علمية وأهمية الرياضيات او الفيزياء او الاقتصاد أو علم الاجتماع مثلا ؟ و قد كتب عن هذا الكثير وخاصة خلال النصف الثاني من القرن الماضي لتوضيح ان الجغرافيا علم وليس معلومات ثقافية عامة كما يراها العامة ، و حتى بعض حاملي الشهادة الجامعية بها . وما زلت مقتنعا بان العلة في طريقة تدريس الجغرافيا وايصالها الى الطلبة والآخرين بصورة تبعدها عن حقيقتها .
لا اريد هنا عرض نقاط الخلاف و تباين وجهات النظر بين العاملين في حقل الجغرافيا من جهة ، وبينهم و العاملين في العلوم الاخرى في هذا الجدل من جهة أخرى ، بل اركز على أحد الأسباب الجوهرية التي أدت الى الوصول الى هذه النتيجة ، من وجهة نظر شخصية .
ولا اوجه اصابع الاتهام الى طرائق التدريس و نظرياتها رغم دورها الكبير والبين في سوء فهم الجغرافيا والتعامل بسلبية معها (لم يتم تطويعها لتستوعب الجغرافيا علما وتوصلها للطلبة هكذا ، بل انساق مدرسوها وراء السهل والبسيط من الطرائق والسبل) .
حزمة الضوء اليوم موجهة نحو منهجية تدريس الموضوعات الجغرافية من قبل الجغرافيين انفسهم . فمناهج تدريس الجغرافيا تتعامل مع المواد الدراسية منفصلة عن بعضها البعض ، ولهذا هي لا تشكل جسما معرفيا متكاملا مترابط الاطراف شمولي النظرة . وفي اعتقادي ان العلة الرئيسة التي يتحمل وزرها ونتائجها الجغرافيون أنفسهم تكمن هنا .
يفترض ان قسم الجغرافيا يؤهل الطالب علميا و يقوم بتنشئته ليقوم بالمهام العلمية التخصصية لاحقا . ولكن عندما تكون التنشئة (من خلال المواد والاساليب التربوية ) ، ويكون التأهيل العلمي (مواد التخصص العلمي) غير متناغمين و غير مكملين لبعض ، و يكمل ذلك خلل و نقص حاد في طريقة التعامل مع المواد العلمية التخصصية ، حينها لا نتوقع أن يكون خريج القسم مؤهلا جغرافيا و بتنشئة علمية سليمة تؤهله للقيام بالمهام التي توكل اليه وتتطلب معرفة و دراية وخبرة جغرافية .
الوضع الراهن لمنهج الجغرافيا ،
تقسم الموضوعات الجغرافية عادة الى أربع أصناف ، هي : الجغرافيا الطبيعية ، الجغرافيا البشرية ، الجغرافيا الاقليمية (القارات) ، والموضوعات المساندة (علم الخرائط ، منهجية البحث العلمي ، الدراسة الميدانية ، الاحصاء ، فكر جغرافي ، مشروع بحث تخرج ، وحاليا اضيفت نظم المعلومات الجغرافية و الاستشعار عن بعد ) . وتضيف بعض الاقسام مواد علمية للمنهج مثل علم الارض ، علم الانسان ، الاقتصاد ، علم البيئة ، و علم المساحة ، إضافة الى العلوم النفسية والتربوية في كليات التربية .
وتتلخص المشكلة بان المنظور العام ، واسلوب تدريس هذه المواد يتم بالصيغة الاتية :-
1- الجغرافيا الطبيعية منفصلة بالكامل عن الجانب البشري .
2- عند تدريس موضوعات الجغرافيا البشرية ، فان الوضع الطبيعي يمثل خلفية للصورة وليس جزء من النظام البيئي المحلي .
3- الموضوع الجغرافي الوحيد الذي يربط عمليا و نظاميا بين العوامل الطبيعية والبشرية هو جغرافية الزراعة . و يحدث ذلك احيانا في جغرافية السياسة عندما يكون للوضع الطبيعي في منطقة الدراسة دور مميز في الظاهرة أو المشكلة قيد الدرس .
4- وحتى عند تدريس القارات و الأقاليم فنادرا ما يتم الربط الحقيقي بين العوامل الطبيعية والبشرية . وعندما يتم تدريس جغرافية الدولة او القارة بصورة علمية نظامية ، ويستوعب الطلبة ذلك جيدا ، حينها تكون دراسة الدول والقارات الاخرى سهلة لان الاسس الفكرية – الجغرافية العامة واحدة ((العلاقة بين الموقع والمناخ ، العلاقة بين المسطحات المائية والمناخ ، العلاقة بين التضاريس و النشاط البشري ، وهكذا)) .
5- جميع هذه العلاقات درسها الطالب سابقا ، ولكنه حفظها و ادرك ان لا علاقة لها بالموضوعات الجغرافية الاخرى . فموضوعات الجغرافيا الاقليمية بالنسبة له تكرار و تجميع لمعلومات لم ولن يقوم الطالب بالربط بينها مالم يستوعب ذلك من اول مرة يتعلمها . من يدرك ماهية هذه العلاقات وطبيعتها بمقدوره ومن النظرة البسيطة الى الخارطة ان يتحدث بعمومية عن منطقة الدراسة دون ان يحتاج الى قراءة مسبقة لكتاب عن جغرافيتها . فالخارطة كتاب مفتوح للجغرافي الجيد .
6- اذا كان هذا حال تدريس الموضوعات الجغرافية ، فماذا نتوقع من تدريس المواد المساندة والمكملة لمنهج التأهيل العلمي ؟ فمادة الاحصاء يدرسها في الغالب احصائي ويركز على الجانب الرياضي دون التطبيق الجغرافي . وتدرس مادة منهج البحث العلمي يتيمة دون ان تكون لها صلة حميمة (كما يجب) مع علم الخرائط و الاحصاء و مشروع بحث التخرج . اما مشروع البحث فغالبا ما يوأد مباشرة (من يد مكتب الانترنيت الى الاستاذ المشرف دون حتى اطلاع الطالب على محتوياته) .
7- تدرس مادة الفكر الجغرافي كتاريخ فكر دون تسليط الضوء على اسسها الفلسفية ، وما وصلت اليه فلسفة علم الجغرافيا مع اطلالة القرن الحادي والعشرين . انها في الغالب استعراض للاكتشافات الجغرافية وما تمخض عنه الفكر العربي – الاسلامي ، و ملامح من فكر النهضة الاوربية .
8- المنهج الجغرافي نظري بنسبة عالية جدا ، الا ما رحم ربي و توفر تدريسي له كلمته في فرض الجانب العملي (الذي يأتي في الغالب واحة في صحراء الربع الخالي) . وما يعرف بالدراسة الميدانية هو في الواقع زيارة ميدانية في احسن الاحوال ، ونزهة اجتماعية في كثير من الاحيان .
النتيجة المنطقة لمنهج دراسي بهذه الصورة ، أن لا يتأهل الخريج ليمارس الجغرافيا كعلم ، لأنه لم يحس بوجود ذلك في المواد التي درسها ، بل وجدها معلومات تخصصية ممكن ان يتعلمها اي شخص بدون الحاجة الى ان يأخذ شهادة جامعية بها . وبالتاكيد ينعكس ذلك على المحيطين به من الاهل والاصدقاء والاقران . فلا نستغرب من تدني النظرة للجغرافيا وللجغرافيين لأننا السبب ، وعلى نفسها جنت براقش .
المنظور العضوي لمنهج دراسة الجغرافيا ،
الجغرافيا من أكثر العلوم استخداما للنماذج ، ومنذ الأزل ، وما الخراطة الا نمذجة مبسطة لمنطقة الدراسة . والان ومع تقنيات الحاسوب و التقنيات الرقمية اصبحت النمذجة والتجسيد
و تصور السيناريوهات المحتملة امرا ملازما للجغرافيا . ولكن للتوضيح سنعتمد نموذجا تخطيطيا بسيطا لتوضيح الفكرة . سنعتمد جسم الانسان كنموذج مقابل Analog نقارن معه العلاقات والوظائف التي تؤديها موضوعات الجغرافيا . وننظر للمنهج الدراسي كوسيلة لتأهيل الطلبة للتخصص في علم الجغرافيا وليس (مثقفين جغرافيين) .
والجغرافيا ككائن (وهذه نظرة عضوية Organic تعتمد للنظر للدولة ، والمدينة على سبيل المثال لا الحصر) ينمو ويمرض و يضمحل ، ويسرع في خطاه ، وقد يصاب بالشلل . وجميع هذه الاعراض ناتجة عن طبيعة الوظائف التي تؤديها اعضاء الجسم ، وفاعليتها . التي قد تتعرض الى مؤثرات داخلية او خارجية . المهم أن يكون هناك تشخيص موضوعي للعلة كي يتم وصف الدواء لها وليعود الكائن معافى وسليم و ينهض بالمهام الموكلة اليه اجتماعيا وعلميا .
1) لنبدأ بالرأس ، إنه اداة التفكير و الاداري الذي يوجه الاعضاء لاداء الواجبات . وبدون الرأس لا وجود للشخص ، أو على الأقل لا هوية له . في الجغرافيا تمثل فلسفة المكان الدماغ ، و بدون استيعاب لهذه الفلسفة وفهمها و تطبيقها على أرض الواقع ليس هناك (كائن) له حضوره ومكانته و دوره . فهل استوعب جغرافيونا الفكر الجغرافي المعاصر ؟ ومتى يستوعبوا ذلك تكون تتولد مدرسة جغرافية عربية ، وتكون للجغرافي مكانة علمية حقيقية امام اقرانه في الجامعة والمجتمع .
2) عندما يكون هناك (دماغ) يعمل ، فلابد من تباين في زوايا النظر للاشياء ومن زوايا مختلفة ، وتمارس الرقبة هنا دورا مهما في تنفيذ ايعازات الدماغ . والنظرة الجغرافية تتباين في المستوى scale وفي المنحى approach (تطبيقي ، تاريخي ، تحليلي ، نظري) . وحتى عندما تستخدم (باترونات) جاهزة تبقى فسحة مجال للفكر للاضافة والتعديل .
3) تمثل الخارطة العمود الفقري للجغرافيا ، وقد قيل سابقا ما لا يرسم بخارطة ليس بجغرافيا ، وقيل أيضا كل ما يمكن تمثيله على الخارطة ويتباين مكانيا يصلح لان يكون موضوعا ومادة للدراسة الجغرافية . ويميز الكثيرون بين الكتابات الجغرافية عن غيرها من وجود الخرائط و عنوان الدراسة والمصادر المعتمدة .
4) يحتاج الانسان يدية لمعالجة الاشياء و ترتيبها بالشكل الذي ينتفع منها أكثر . بعض المهام تتطلب يدا واحدة ، ولكن الاكثرية تحتاج الى الاثنين ليكملا بعضهما البعض وينجزا الواجب بافضل حال . وفي الجغرافيا تقوم مواد التحليل الكمي والنوعي بهذه المهمة Quantitative & qualitative . وعلى الرغم من الصراع بين مؤيدي الكم و معارضيه الا ان الاثنين يكملان بعض ويعطيان الدراسة الجغرافية صورتها الحقيقية عندما يستخدمان بشكل جيد ومتكامل .
5) تمثل الرجلين اداة الانتقال والتحرك لتحقيق الهدف عند الانسان ، وفي الجغرافيا لا يمكن الاستغناء عن المنهج البحثي العلمي و الدراسة الميدانية لتحقيق اهداف الابحاث والدراسات . قد يرى البعض ان الدراسة الميدانية غير ضرور ية ، لآنه استعاض عنها ببيانات جمعت من قبل الآخرين . انه يعتمد (عكازة) إستعارها من غيره ، فهو أعرج بدون أن يعي ذلك . وقد يرى البعض أن الصور الجوية والمرئيات الفضائية قد أنهت دور الدراسة الميدانية ، ولكنهم واهمون جدا ، لانها جاءت لتكمل النقص و تتجاوز الصعاب وليست بديلا .
6) تشكل الموضوعات الجغرافية (البدن Body) الذي يرتكز على هذا الهيكل . وبدون هذا الهيكل تبقى الموضوعات الجغرافية بعيدة عن العلم ، راقدة في مكانها بدون حركة او تقدم او مكانة بين العلوم ، ناهيك عن تخلفها عن (ماراثون) تبني و امتلاك تقنيات الالفية الثالثة من رقمية وغيرها . ويبقى الهيكل (مثيرا للشفقة والاشمئزاز) بدون الموضوعات الجغرافية التي تعطيه شخصيتها وتكمل صورته ومكانته بين اقرانه .
فبدون (الرجلين – منهج البحث والدراسة الميدانية) ليس هناك حركة وتقدم ، وبدون (الأيدي – ادوات التحليل) ليس هناك ما يضاف للعلم والمعرفة ، و بدون (الرقبة – المنظور) تبقى الزاوية احادية النظرة ، وبدون (العمود الفقري – الخرائط) ليس هناك جغرافيا ، وبدون (الرأس – فلسفة الجغرافيا) ليس هناك هوية .
خطأنا الجسيم اننا ركزنا على (اللحمة البدن – الموضوعات الجغرافية) ونسينا (الهيكل العظمي – الموضوعات المساندة) . ما نحتاجه فعلا اعادة نظر في منهجية تدريس المواد الجغرافية وليس المنهج الدراسي للجغرافيا بذاته . والمنهجية اقصد بها طريقة التفكير و العمل ، سبيل تحقيق الهدف ، أسلوب النظر الى الأشياء ،
والمنهجية هي التي تعطي للشخصية ملامحها وسماتها التي يتعرف الاخرون من خلالها على الكائن و هويته .
المصدر
http://www.geoiraq.net/print.php?id=66
المفضلات